الأربعاء، 23 سبتمبر 2015

ذكريات

كل شيء يبدو في تلك اللحظة عاديا، حتى إذا توقفنا للحظات قليلة، ربما لا تزيد عن دقيقة أو دقيقتين في انتظار الحافلة، أو في انتظار أن تفتح إشارة المرور، أو في انتظار دخول قاعة المحاضرات، حتى ينفجر شلال هادر من الذكريات. شلال يكتسح كل ما يبدو أمامه كالإعصار. تسونامي يجرف كل المشاهد التي كنت أظن أنها رحلت إلى قاع الذاكرة، ويأتي بها ناصعة كأنها حدثت بالأمس. أول يوم دراسي في المرحلة الابتدائية. أول حقيبة مدرسية وأول عصاة تهبط على أصابعي من أستاذ غليظ القلب. الإحساس بالبلاهة بعد خيانة صديق. أول مرة ينزل الحب ضيفاً على القلب. أصابع ابنتي المتناهية في الصغر بعد ولادتها مباشرة. وجه أمي الراحلة حين رأيتها لآخر مرة. أصابع أبي الممتلئة تصفعني لأول وآخر مرة حين كسرتُ الراديو العتيق الذي يستمع فيه إلى إذاعة لندن. أول راتب بعد أول شهر عمل في الإسكندرية. أول مرة أغادر القرية سعيدا إلى مدينة الفيوم التي كنت أعتقد أنها في نهاية العالم. أول شعرة بيضاء مختبئة في رأسي. أول أذان أرفعه حين كنت مراهقا صغيرا في مسجد القرية ولم يأت أحد للصلاة فصليت إماما ومأموما ومؤذنا. ملابس العيد التي كانت تجعلني لا أعرف طعم النوم حتى أرتديها صباحا. البكاء ليلا حتى الصباح عند أول إحساس بالقهر. كل هذا يأتي في لحظة واحدة لا يقطع تدفقها سوى تغير الألوان في إشارة المرور أو حضور الحافلة. هل نحن حقا نسير وحيدين في هذه الدنيا؟ كيف يكون الإنسان وحيدا وفي رأسه كل هذه الذكريات؟

الجمعة، 10 يوليو 2015

بعثات ومنح الطلاب العرب ليست كلها ناجحة

توجد كثير من الظروف التي تدفع بالشباب العربي إلى البحث عن فرصة للتعليم خارج الجامعات العربية. المسألة لا تختص بالجامعات العربية فقط، بل أقصد منظومة التعليم العربية في مجملها. هذه المنظومة التي تُدار في معظم البلاد العربية من خلال نخبة طوباوية كلاسيكيةِ القيم ضد الحداثة والمدنية في كثير من جوانبها. 

يأتي في المقدمة من هذه الأسباب مناهج التعليم العربي التي تنتمي لحقبة القومية العربية في ستينيات القرن الماضي، أو فترة الانكفاء الجغرافي الوطني في المرحلة الزمنية التالية لها. هذه المناهج لا تتعدَّى منظومة القيم الكلاسيكية السائدة التي تنفصل عن الواقع الذي يحياه الشباب انفصالا تاما. مما يجعل هؤلاء الشباب يدرسون مجموعة من التعاليم والتوجيهات التي لا يلتقون بها خارج الدرس الأكاديمي. هذا الفصل التام بين المنهج والواقع الذي نحياه يشكل السبب الأساسي –في رأيي– للإزدواجية في القيم والمعايير التي تعصف بالمواطن العربي والشباب منهم على وجه الخصوص.
قريحة الغرب 
أما فيما يختص بالمناهج العلمية في علوم الفيزياء والكيمياء وبقية العلوم الطبيعية، فالأمر أكثر فداحة. فالعالم العربي –في واقع الحال وبعيدا عن الأمنيات– لا يساهم إلا بأقل القليل في البحث العلمي. لم يعد خافيا أن ميزانية البحث العلمي في المجتمع العربي – حتى في البلاد النفطية – لا تُشكِّل إلا جزءًا ضئيلاً من ميزانية هذه الدول مقارنة بالدول المتقدمة. يعيش الأساتذة والباحثون العرب في كافة حقول العلم بشقيه التجريبي والإنساني على دراسة ما جادت به قريحة الغرب. حتى الأساتذة العرب النابهون لا يمكنهم التحرك خارج الإطار الأكاديمي الغربي. 
كما لا يحتاج الأمر إلى الإفراط في الحديث عن كم الإحباطات التي يعاني منها الشباب العربي الذي يعيش وسط مجتمعات قمعية. والخطورة أن القمع لا يأتي فقط من النظم السياسية الحاكمة، لكن الأخطر أن بنية المجتمع وسلوكه نحو الإنسان هو سلوك استبدادي من الأساس، بمعنى أن الاستبداد السياسي ليس إلا محصِّلةً لاستبداد على مستوى الوحدات الصغرى، أي الأسرة والمدرسة وبقية المؤسسات الاجتماعية. هذا المناخ لا يساعد على الإبداع والتفكير خارج صندوق القيم السلبية التي يعيش فيها الشباب.
دول الابتعاث
تأتي أوروبا الغربية والولايات المتحدة في صدارة البلاد التي يطمح الطلاب العرب إلى الابتعاث إليها، لكن ظهر على الساحة مؤخرا مجموعة الدول الصناعية في شرق آسيا مثل ماليزيا واليابان وكوريا الجنوبية. يذهب الطلاب العرب إلى شرق آسيا لدراسة العلوم الطبيعية والطب باللغة الكورية واليابانية وغيرها من اللغات التي أصبح لها حضور لافت في هذه الأيام. ولا يحتاج الأمر إلى ذكاء لمعرفة الأسباب التي يأتي في مقدمتها التصنيف الدولي لهذه الجامعات.
الحقيقة –من خلال خبرتي التدريسية في كوريا الجنوبية- أن الطلاب العرب ينقسمون في هذا الأمر إلى قسمين: قسم يُدرك أن الحصول على هذه المنحة أمر في غاية الصعوبة، وأن على الطالب أن يواصل العمل ليل نهار حتى يتمكن من الاستمرار والتفوق؛ لأن هذه المنح الدراسية تربط استمرار الطالب بمدى ما يحققه من تقدم خلال فترة المنحة، فإذا أحست الجهة المانحة بأي تراخٍ فإنها تقوم بإنذار الطالب أو إلغاء منحته في حال انخفاض تقديراته. كل هذا يجعل الطالب في سباق دائم مع الوقت. والنوع الثاني بعض الطلاب المبتعثين من جامعات حكومية بالإضافة إلى بعض الأثرياء العرب الذين لا يرغبون في العلم، لا يتعدى الأمر الرغبة في الحصول على شهادة للتفاخر بها، وهذا يتطلب الانتساب إلى بعض الجامعات منخفضة التصنيف والتي لا تكلف الطالب كثير عناء للحصول على مبتغاه.
جامعات الانتساب
أما فيما يخص الجامعات التي يمكن لطالب المنحة أو البعثة أن ينتسب إليها فهي أيضًا قسمين: هناك جامعات معترف بها دوليا ولها اسم شهير في ساحة البحث العلمي، وهذه الجامعات تتطلب مجهودا خرافيا من الطلاب لتعويض النقص المعرفي الفادح والفجوة الواسعة بين المعارف الأساسية التي شكلت وعي الطالب في مرحلة التعليم الأساسي وبين مستوى الطلاب العاديين من غير العرب في هذه الجامعات، الحقيقة أن الطالب العربي يحدث له ما يشبه الصدمة حين يدرس في هذه الجامعات، إذ أن طرق التدريس والمناهج هناك تسير في عكس الطريق الذي تسير فيه المناهج التي تربينا عليها من حيث الكم والكيف. وهناك جامعات ليس لها أي إضافة أو مساهمة في المعرفة. الأمر لا يعدو كونه مكاتب لتلبية رغبة بعض الطلاب العرب في الحصول على شهادة من جامعة غير عربية، لكنها في الحقيقة لا تضيف إلى الطلاب أي معرفة حقيقية.
لا يعودون أبدا
مع الأسف، كنت أتمنى أن يجد الطلاب في جامعاتنا العربية تعويضا عن جامعات الغرب، فكثير من طلاب العرب يذهبون إلى هذه الجامعات للحصول على الماجستير والدكتوراه ولا يعودون عربا أبدا. الكثير منهم يدين بالولاء للبلاد التي منحتهم هذه الشهادات العلمية، والسواد الأعظم من هؤلاء الطلاب يرفض العودة مرة أخرى إلى بلده الأصلي، لأنه لا يستطيع أن يجاري الأجواء غير العلمية السائدة في المؤسسات الأكاديمية العربية. الحقيقة أن الظروف الحضارية كلٌّ لا يتجزَّأ، وحين تتغير الظروف في عالمنا العربي ويكمل سعيه نحو التقدم والحرية فسوف تتغير بالضرورة أحوال جامعاتنا العربية والبحث العلمي فيها.

الأربعاء، 25 فبراير 2015

اللغة العربية في كوريا الجنوبية ... الواقع والآمال

عجيبٌ أمرُ الحضارة العربية الإسلامية ولغتِها، كلما حاصرها الأعداء بهراواتهم الغليظة وأظافرهم الحادة محاولين استئصال جذورها في مكان، نبتت لها جذورٌ في مكان آخر. لم أكن أصدق، أنا الجالس في صالة مطار القاهرة الدولي والمُحاصَر بآلاف الإحباطات والهزائم جرَّاء ما آل إليه حال الثورة المصرية في نهايات أغسطس 2013، منتظرًا الطائرة التي ستُقلني آلاف الكيلومترات إلى أقصى الأرض، أن أفتح عيني على واقعٍ جديد يدعو إلى الأمل والتفاؤل من حيث لا أدري. هل جربت شعور إنسان عاش يُدرِّس اللغة العربية في مصر أو في أي مكانٍ في العالم العربي لأكثر من عشر سنوات؟ نعم، إحساس بالغربة واليأس واللاجدوى، كاليتيم يشاهدُ ميراث أجداده العظام ينسحب إلى المتاحف وزوايا التاريخ، ويُخلِي مكانه للوافدين الجدد من لغات العالم المتقدم في غرب أوروبا والولايات المتحدة.
قصة اللغة العربية في كوريا واحدة من أجمل القصص التي يمكن للمرء أن يستمع إليها. ففي شهر مارس القادم سوف يحتفل قسم اللغة العربية - بجامعة هانكوك - بمرور خمسين عامًا على تأسيس القسم الذي يُعد أقدم أقسام اللغة العربية في كوريا الجنوبية التي وصل عددها إلى ستة أقسام في خمس جامعات. الأول في فرع جامعة هانكوكوك بالعاصمة سيول، والثاني في فرع نفس الجامعة بمنطقة "يونج إن". وفي العاصمة سيول هناك قسم ثالث للغة العربية في جامعة "ميونج جي". وهناك ثلاثة أقسام خارج العاصمة. الأول في جامعة بوسان والثاني في جامعة دانكوك، والثالث في أقصى الجنوب الغربي في مقاطعة جوانج جو في جامعة تشوسُن. بالإضافة إلى قسم اللغة العربية بكلية الدراسات العليا للترجمة GSIT في جامعة هانكوك الذي يمنح درجتي الماجستير والدكتوراه في الترجمة العربية لطلاب يختارهم القسم من أفضل خريجي أقسام اللغة العربية الستة بكوريا. يعود الفضل في تأسيس هذه الأقسام الستة إلى الرعيل الأول من الأساتذة الكوريين الذين سافر معظمهم طُلابًا في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي إلى مصر والأردن وسوريا للدراسة، وعادوا إلى كوريا ليؤسسوا هذه الأقسام التي تشهد الآن تزايدا كبيرا في نسبة الإقبال على دراسة اللغة العربية.
لكن الحدث الأكبر والأبرز في تاريخ اللغة العربية في كوريا لم يأت إلا منذ سنوات قليلة، حين اختارت الحكومة الكورية أن تكون اللغة العربية إحدى اللغات الثانية التي يمتحن فيها طلاب المرحلة الثانوية، من يومها واهتمام الطلاب باللغة العربية يزداد على حساب اللغات الذائعة الصيت كالإنجليزية والفرنسية. لقد أصبح أمرًا شائعًا الآن أن تستمع وأنت تسير في شوارع سيول إما إلى أحد الكوريين من طلاب أو خريجي الجامعات الكورية يتحدث العربية، أو من أحد العرب الذين تكاثرت أعدادهم في الآونة الأخيرة في كوريا. الحضور العربي في كوريا كان نادرًا جدا، أما في السنوات القليلة الماضية زاد اهتمام العرب بالحضور إلى كوريا وخاصة طلاب البعثات الذين أصبحوا يفضلون كوريا على الولايات المتحدة وأوروبا. ويتبقى في النهاية الإشارة إلى الجمعية الكورية للغة العربية والأدب العربي التي يزيد أعضاؤها على الخمسين، وهم يتألَّفون في معظمهم من أساتذة ودارسي اللغة العربية في الجامعات الكورية. وتُصدِر الجمعية مجلةً فصليةً أكاديمية مُحكَّمة تُعنَى بدراسات اللغة العربية والأدب العربي. وهؤلاء الأساتذة الكوريون يشكلون مجتمعًا شديد الترابط والارتباط بالعالم العربي، حيث يتوافدون في زيارات مستمرة على الجامعات العربية والمؤتمرات التي تعقد فيها.
وهناك أسباب متعددة لاهتمام الكوريين باللغة العربية. لقد شهدت كوريا في السنوات الأخيرة نهضة علمية واقتصادية واسعة، وزاد اتصالها بالشرق الأوسط بعد أن أصبحت المنطقة العربية سوقًا رائجة لمنتجات الشركات الكورية العملاقة مثل سامسونج وإل جي وكيا وهيونداي، مما دفع كثيرًا من الكوريين إلى المسارعة بدراسة اللغة العربية نظرًا لما تحققه هذه الدراسة لصاحبها من فرص عمل لا تُتاح لدارسي اللغات الأخرى. لقد صادفتُ كثيرًا من طلاب قسم اللغة العربية هنا يبدأون حياتهم العملية قبل التخرُّج خاصة المتفوقين منهم، لكن أهم ما يميز هؤلاء الدارسين هو حبهم الشديد للغة العربية وأهلها، بل ويتحول كثيرٌ من هؤلاء الطلاب إلى أصدقاء للعرب يدافعون عنهم في ظل الهجمة المسعورة التي تشنُّها الميديا العالمية على كل ما هو عربي أو مسلم. كل هذا في ظل تجاهل عربي تام من كافة السفارات والبعثات الدبلوماسية العربية المتواجدة على أرض كوريا، فيما عدا الملحق الثقافي السعودي الدكتور هشام عبد الرحمن خداوردي الذي لا يكف عن زيارة هذه الأقسام ويقوم بتمويل عدد من الأنشطة الثقافية التي تقوم بها بشكل دوري، ولولاه لم يكن هناك أي وجود عربي رسمي.
يَدرس الطلاب اللغة العربية والثقافة الإسلامية في ثمانية فصول دراسية تُسمَّى سبعة زائد واحد، يدرس الطلاب سبعة فصول دراسية في كوريا، ثم يذهبون إلى أحد الأقطار العربية للدراسة لمدة فصل دراسي واحد لإكمال دراستهم هناك، حيث يستمعون إلى اللغة واللهجات العربية بشكل مباشر، ثم يعودون وقد اكتسب كل منهم العربية باللهجة المصرية أو الأردنية أو التونسية. يجيد كثير من هؤلاء الطلاب الفصحى إجادة تامة، غير أنهم يعجزون في البداية على عن التفاهم مع العرب باللهجات العامية، لكن هذه المشكلة تزول بالتدريج كلما كانوا أكثر ارتباطًا بمن يتعرفون عليهم من العرب. وهكذا يتمكن طلاب في كوريا الجنوبية من تعلُّم اللغة العربية بسهولة بينما الطلاب العرب يتعثر أكثرهم في الحديث بالعربية الفصحى. كما يتخذ كل واحد من هؤلاء الدارسين اسمًا عربيًا يعرفه العرب من خلاله نظرًا لصعوبة الأسماء الكورية على الأجانب، مثل: صالح بارك، وأمين كيم، وأحلام كواك، ونبيلة يون، وغيرهم.
يشكو الأساتذة الكوريون من قلة المناهج الدراسية والكتب التعليمية التي يستخدمونها في تدريس اللغة العربية، لكن بعضهم يقوم مشكورًا بإعداد هذه المناهج والكتب. كم نتمنى أن تهتم المؤسسات الرسمية في العالم العربي باللغة العربية بالقدر الذي يهتم بها الكوريون. تحتاج العربية الحديثة إلى عدد من الكتب في تعليمها للأجانب، وهذا أمر – مع الأسف – يُقصِّر فيه العرب كثيرًا، كما نتمنى أن تتابع البعثات الدبلوماسية والملحقيات الثقافية العربية في كوريا الأنشطة التي تقوم بها هذه الجامعات وأن تدعمها معنويًا، وأن تُسهِّل لها بعض الصعوبات خاصة تلك التي يواجهها الطلاب الكوريون عند دراستهم في العالم العربي. أنا أعرف أنَّ كثيرًا من دولنا العربية غارقة الآن في مشكلاتها الداخلية بعد الثورات العربية الأخيرة، لكننا لا يجب أن ننسى أن لدينا أصدقاءً يحبون لغتنا ومجتمعاتنا ويتفانون في دراستها، ويستحقون منا أن نرعاهم وأن نهتم بهم. لقد أصبح أصدقاؤنا في العالم قليلين، ولا نريد أن نخسر كل يوم مزيدًا منهم.
رابط المقال في جريدة العربي الجديد