الثلاثاء، 29 يونيو 2021

الشوارع حياة

الشوارع كائنات لها أرواح كالبشر. عيونها المصابيح، وألسِنتُها اللافتاتُ والإشاراتُ الضوئية.
المقاعدُ الخشبية العتيقة أيادِيها الحانية.

في أواخر المساءاتِ الباردة، يبدو الشارع عجوزا ينظر من النافذة في انتظار أحفاده الغائبين. 

يُحِسُّ الشارع أحيانا بالأَرَق، فيظلُّ مستيقظا حتى الصباح في انتظار خطوات المارة وأصوات البائعين كي يَشعرَ بالأمان.

يأتي عامل البلدية. يَصْعدُ أعمدةَ الإِنارة. يُغيِّر المصابيح التالفة، فيعود إلى الشارع النور، كأنَّه جَرَّاحُ العيون يُعِيدُ إليه البصر. 

يشعر الشارع بالسعادة حين يرى مصابيحَ الزينة مُعَلَّقةً بإحدى الشُّرُفَات، فيعرف أن المراهِقةَ البريئةَ ذاتَ الجدائلِ الصغيرةِ وَذَيْلِ الحِصان قد أصبحتْ شابةً يافِعةً.

في ساعات الصباح الأولى يشعر الشارعُ بالفخر حين يرى أفواج التلاميذ بملابسهم المدرسيةِ الزرقاء يستعدون للمغادرة. 

حين ينزل الأجدادُ لأداءِ صلاة الفجرِ يشعرُ الشارعُ بالأمان والدفء. 

يشعر الشارع بالرعب حين يعلو أزيزُ الطائرات، وتبدأ الغارة الجوية. 

يشعر الشارع بالخجل، فقد عرف أن مالِكًا جديدًا يستعد لافتتاح مَلْهًى لَيْلِيّ. 

حين دوَّتْ صرخةٌ حزينة من إحدى الشرفاتِ المنخفضة، أسرعَ الناسُ نحوَ الصوت. بعد قليل، خرجوا حاملين أحدَ الموتى إلى مَثْوَاه الأخير، وحين عادوا إلى الشارع، كانت الأمطارُ الغزيرة تتساقط فوقَ السياراتِ والشرفاتِ وحِبالِ الغسيل وبضائع الباعة الجائلين. قال أحد الجيران: "هذه أمطار الخريف". وَحْدَهُ الحفيدُ - مُنْزَوِيًا بِإِحدَى الغُرَفِ - يَعْلَمُ أنَّ هذه الأمطار كانت دموعَ الشارعِ حزنًا على وفاة جَدِّه. 

الثلاثاء، 27 أكتوبر 2020

الرئيس ماكرون وأزمته مع الإسلام

الإسلام هو الديانة الوحيدة في العالم الآن التي تناصبها العلمانيةُ الغربية العداء. كل أديان العالم تَمَّ علمنتُها من الداخل أو من الخارج ما عدا الإسلام. فالسواد الأعظم من المسلمين لا يقبلون بالعلمانية كنظام للحياة أو أسلوبًا لإدارة الدولة. والعلمانية - بإيجاز شديد - تعني الفصل التام أو الجزئي بين الديانة وبين الدولة، أي تصبح الديانة محض نصائح أخلاقية يمارسها الفرد داخل المسجد أو الكنيسة أو المعبد أو في حياته الخاصة، ولا تتجاوز ذلك إلى التشريعات أو سَنِّ القوانين.
تَمَّتْ عَلْمَنَةُ المسيحية منذ عصر النهضة بعد صراع مرير بين المجتمع والكنيسة المتمثلة في البابا وبقية رجال الدين. كانت الكنيسة عقبة كبيرة في طريق الحرية والتقدم العلمي آنذاك، ولم يكن هناك بد من إزاحتها بالكلية إذا أراد المجتمع أن ينهض بالطريقة التي نهضت بها أوروبا. الآن رضخت المسيحية تمامًا للعلمنة وصارت مجرد نصائح أخلاقية لا تتجاوزها إلا ربما في حالة الأحوال الشخصية. بينما القوانين والتشريعات ونظام الدولة بالكامل لا علاقة له بالدين. بإمكان الناس الآن في الغرب أن يصدروا التشريعات التي ربما تخالف الدين مخالفة تامة دون خشية من أحد.
يقول المنتقدون إن الإسلام ديانة بربرية تسيطر على الإنسان تماما كأنها تملكه، ولا تعطيه الفرصة لممارسة حريته. إنها تشغل كل لحظة من حياة الفرد. وهي الشريعة الوحيدة على كوكب الأرض التي ترافق الإنسان منذ أن يستيقظ إلى أن ينام. المسلم هو الشخص الوحيد في العالم الذي يتساءل إن كان "كل" ما يفعله يتوافق مع الدين أم لا. إذا أراد دخول الحمام فهناك آداب، وإذا أراد أن يأكل أو يشرب أو يخرج من البيت أو حتى إذا أراد أن يجامع زوجته فلا بد أن يلتزم بهذه الآداب. يمكن اختصار كل هذا في الآية القرآنية التالية: "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. لا شريك له. وبذلك أُمرت وأنا أول المسلمين".
يقول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون: "إن الإسلام يعيش اليوم أزمة في كل مكان بالعالم". الحقيقة أن الرجل لم يخطئ كثيرًا، فالإسلام بالفعل يعاني أزمة في العالم كله، ولا ينكر هذا إلا جاهل أو مكابر. لكن ما سَكَتَ عنه ماكرون أن العلمانية الفرنسية تعيش أزمة كبرى، كما أن الرأسمالية الغربية التي انتهت إلى تحويل المجتمعات إلى ما يشبه "السوبر ماركت" تعاني هي الأخرى أزمة كبرى. ولم يقل ماكرون إن الديانة اليهودية تعاني أزمة بعد أن اختطفتها الحركة الصهيونية، وصار كثير من الناس في العالم يعتبرون أن اليهودية هي الصهيونية، والصهيونية هي اليهودية. الأفكار الكبرى في العالم كله تعاني الآن من أزمات وجودية.
سَكَتَ الرئيس الفرنسي عن كل ما سبق ولم يتذكر من كل هذه الأزمات الوجودية إلا أزمة الإسلام. الرجل يعاني هو الآخر من أزمات سياسية طاحنة لم تهدأ منذ اليوم الأول من استلامه الحكم. ظل الفرنسيون في الشوارع طوال عام كامل خلال مظاهرات السترات الصفراء. تعيث فرنسا فسادًا في مستعمراتها الأفريقية دون أن نسمع كلمة واحدة عن نية فرنسا تقديم كلمة اعتذار واحدة عن المذابح البشعة التي ارتكبتها خلال الحقبة الاستعمارية التي أذاقت الشعوب الويلات في آسيا وأفريقيا. نسي الرئيس الفرنسي الأزمة التي تعانيها المسيحية في العالم. لقد تحولت كثير من الكنائس في الغرب المسيحي إلى بيوت مهجورة لا يرتادها أحد بعد أن غرقت أوروبا في موجات إلحاد بعد أن حوَّلتْ العلمانية الغربية والرأسمالية حياتهم إلى مادة بلا روح. كل هذا نسيه الرئيس الفرنسي ولم يتذكر إلا أزمة الإسلام.
هل يعاني الإسلام أزمة كما ذكر الرئيس الفرنسي؟ الحقيقة أن هذا السؤال يبدو لي كوميديًّا للغاية. نعم، الإسلام يعيش في أزمة وجودية طاحنة. لا نحتاج إلى مزيد من الأدلة على هذه المقولة. إذا سألت مواطنًا كوريًّا أو يابانيًّا أو أمريكيًّا أو في أي مكان في العالم عن فكرته عن الإسلام، فلن تزيد معلوماته عن أن الإسلام هو الأفكار العنيفة البربرية التي تفرضها المجموعات الإرهابية المسماة "الدولة الإسلامية" في المناطق التي تسيطر عليها. أو أن الإسلام هو الديانة البدوية القادمة من صحراء المملكة السعودية التي تخاصم الحداثة والتقدم وتفرض على المرأة تغطية الرأس والجسد.
يقول المنتقدون للإسلام: "لا توجد دولة إسلامية على وجه الأرض إلا وهي غارقة في الاستبداد والديكتاتورية. كل الدول العربية والإسلامية - مع استثناءات قليلة - هي دول غارقة في الفساد الإداري والمؤسسي ولا تمتلك قرارها أو مصيرها، وإنما هي دول تابعة للغرب". ما الصورة الإيجابية التي قدمها المسلمون للعالم لكي نعرف أن الإسلام ديانة عظيمة كما تبدو لكم أيها المسلمون؟ أنتم تقعون في منطقة استراتيجية في العالم، وفي بلادكم ثروات هائلة، لكنكم لا تقدمون للعالم شيئًا يستحق الاحترام. لقد استطاعت الدول الأوروبية أن ترتفع فوق اختلافاتها اللغوية والإثنية والدينية، وأن يتحدوا ويحولوا أوروبا إلى دولة واحدة. ماذا فعل المسلمون كي نصدق أن ديانتهم ديانة سلام ورحمة كما يدَّعون؟ هل هناك دليل أكثر من أن أي مواطن أمريكي أو أوروبي بإمكانه أن يزور كل البلاد العربية والإسلامية دون تأشيرة دخول واحدة، بينما إذا فكر مواطن عربي في زيارة بلد عربي، فإن عليه أن يقف في طوابير التأشيرات والجوازات وهو لا يعرف إذا كان بإمكانه أن يحصل على تأشيرة الدخول أم لا.
الحقيقة أن الإسلام ديانة منكوبة بأهلها وأتباعها، تحمل عارهم أينما وجدوا. فالمواطن العربي - في الغالب - يقدم للعالم مثالا لا يدعو إلى الفخر. يمكن القول بأن أعدى أعداء الإسلام لم يسئ إلى الإسلام بالقدر الذي أساء إليه المسلمون في كل مكان. إنهم بتصرفاتهم غير المسؤولة يقدمون رسالة مفادها أن الإسلام ديانة تدعو إلى التواكل والكسل، ولا تحترم الوقت، وليس عندها شيء يمكن أن تقدمه للبشرية.
تقول الحكمة القديمة بأن أكبر انتصار يمكن أن تنتصر به على أعدائك هو أن تكون ناجحا وقويًّا. الإسلام كما تقول الإحصائيات هو أوسع الديانات انتشارا على كوكب الأرض رغم حملات التحريض التي يواجهها. بل الغريب أنه كلما زادت حملات التحريض كلما زادت رقعة انتشاره بين الناس. المطلوب فقط أن يصبح المسلمون على قدر المسؤولية، لا أقصد هنا رجال السياسة والحكم، فقد نفضتْ المجتمعاتُ العربية يدها من هؤلاء تماما. أنا أقصد المسلم العادي الذي ربما يعمل طبيبا أو معلمًا أو محاميًّا أو أستاذًا في الجامعة. كل واحد من هؤلاء يجب أن يعرف أنه على ثغر من ثغور الإسلام يجب أن يحميه. يجب على كل مسلم أن يقدم نموذجًا راقيًا في سلوكه، وخاصة هؤلاء الذين يعيشون في بلاد غير إسلامية.
إن إصلاح صورة الإسلام لن تأتي بمزيد من الكراهية أو العنف. لقد شعر كثير من المسلمين بالمهانة جراء تصريحات الرئيس الفرنسي، لكن كل ما فعلوه أنهم غيروا صورهم على مواقع التواصل الاجتماعي كي تعبر عن هذا الغضب. حتى مواقع التواصل مع الأسف أنشأها غير المسلمين وهي تخضع لإرادتهم. إن اليوم الذي سيشاهد فيه الرئيس الفرنسي بلاد الإسلام موطنًا للحريات وتداول السلطة هو اليوم الذي لن يجرؤ فيه أن يقول إن الإسلام يعيش أزمة. عندما ينتج المسلمون غذاءهم بأيديهم، وعندما تصبح لهم كلمة مسموعة في العالم لن يصدق شخص كل الافتراءات التي يروجها الإعلام في العالم عن الإسلام. يفكر كثير من الناس في العالم بأن هذا اليوم بعيد جدا. لا بأس. "إنهم يرونه بعيدًا ونراه قريبا".

الثلاثاء، 7 يوليو 2020

في رثاء أم عبد الرحمن

لم تكن (أم عبد الرحمن) متزوجة، ولم يكن لديها أبناء. اكتشفتُ حين تفتحتْ عيناي على الدنيا أن لدى كل الأطفال أُمًّا واحدةً، بينما أنا أتأرجح بين اثنتين: أم رسمية هي التي أنجبتني، وأم أخرى هي التي ربتني وتولتْ رعايتي أنا وأختي التي تصغرني. كان هذا يسبب لي إزعاجًا كبيرًا في صغري، كان عليَّ أنْ أضيف اسم كل منهما بعد نداء "يا أمي" حتى تعرف أنها هي المقصودة بالنداء. كان كل الأطفال يقولون: (يا أمي) هكذا ببساطة فتستجيب لهم أمهاتهم، بينما كان عليَّ أن أقول: (يا أمي أمينة) أو (يا أمي سالمة) حتى تعرف السيدة أنها هي المقصودة بالنداء.
كانت (أمي سالمة) بيضاء نحيلة طويلة القامة، أو هكذا كنتُ أظن بسبب صِغَرِي وقِصَر قامتي وقتها، كانت فلاحةً بسيطةً عصبيةً رقيقةَ القلب مثلَ كثير من أهلنا في قرى الريف المصري البعيدة عن الحَضَر. وكانت تغضب لأقل الأشياء، كما كانت تسعدها أقلُ الأشياء. وكان عادة أهل الريف وقتها أن تتزوج الفتيات في العاشرة والحادية عشرة، بينما تبدأ الأسرة في الشعور بالقلق إذا وصلت الفتاة إلى سن الخامسة عشرة ولم تتزوج وقد تزوَّجتْ كلُ قريناتها من الجيران. غير أن هذه السيدة لم تتزوج، وقد شعرتُ بكثير من الخجل أن أسألها عن سبب عدم زواجها، فنحن أبناء القرى نعرف أن هناك أسئلة نفكر فيها فقط، بينما يستحيل أن ننطق بها على الملأ. 
كنت أعتقد أن "أم عبد الرحمن" ربما تكون خالتي، وهي تعيش معنا لأنها ليست متزوجة وليس لديها أبناء، لكنني اكتشفت أنَّ أمي كانت ابنةً وحيدةً لأمها، بينما "أم عبد الرحمن" هي خالة أمي وليست خالتي. سألت أمي: لماذا تنادين "أمي سالمة" بهذه الكُنية "أم عبد الرحمن" رغم أنها لم تتزوج وليس عندها ابن اسمه عبد الرحمن؟ فقالت أمي: إن الناس عندنا في الريف يا "صُلْح" -هكذا كانت تناديني- إذا لم تتزوج المرأة أو تزوجت ولم تنجب، فإنهم ينادونها باسم أخيها الذكر الأكبر، فإن كان اسم أخيها الأكبر "عبد الرحمن"، يصبح اسمها "أم عبد الرحمن". في تلك اللحظة عرفتُ أنها تحمل كُنية أخيها الذي يكبرها. ولأن هذه السيدة لم تتزوج، فكان الناس ينادونا "أم عبد الرحمن" تقديرًا لها واحترامًا لمشاعرها التي حُرِمَتْ من الأمومة.
لم تنل "أم عبد الرحمن" حظًّا من التعليم أو الثقافة، ولم يكن لديها إلا خبرات إنسانية اكتسبتها بالفطرة كعادة أهل الريف في ذلك الوقت، وأكاد أحلف لك عزيزي القارئ أن "أم عبد الرحمن" وشبيهاتها من نساء ذلك الزمان كُنَّ أشدّ قوةً وأكثر خبرةً بالحياة من خريجات الجامعات بأظافرهن المصقولة الملونة التي تخشى غسل الأطباق أو إعداد الطعام لعائلاتهنّ. كما أن هذه السيدة لم تذهب إلى المدرسة، ولم تكن تعرف القراءة والكتابة، إلا أنها كانت تحافظ على الفروض الخمسة في وقتها، كما كانت تستمع في خشوع إلى آيات القرآن الكريم المنبعثة من إذاعة البرنامج العام بصوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد رحمه الله. وكان لديها إيمان فطري وَتَوَكُّل على الله واطمئنان لا حدود له. ما الذي فعلتْه بنا المدارس والجامعات لنكون ضعفاء بهذا الشكل؟ هل كان يجب على المرء أن يكون فلاحًا بسيطًا حتى يختبر هذا الإيمانَ الفطريَّ النبيل؟
كانت جدتي - رحمها الله - تسكن في قرية مجاورة تبعد عن قريتنا حوالي ٣ كيلومترات، وكان علينا في ذلك الزمن كي ننتقل بين هذه القرى النائية أن نركب الحمار، ولهذا كان وجود "أم عبد الرحمن" في بيتنا له فوائد كبيرة، فقد كانت والدتي - رحمها الله - سيدة قوية الشخصية حازمة في التربية، فكانت "أم عبد الرحمن" هي السد المنيع الذي يحول دون وصول "العصا" إلى مؤخرتي أو جسدي. كانت تدافع عني وعن أختي بكل شراسة، ولم تكن تسمح لأحد بالاقتراب منا، وكانت تهدد دائمًا بأنها ستجمع ملابسها وتغادر المنزل بلا رجعة. فكان الجميع يأخذ تهديدها على محمل الجد. وكنت آخذ مكاني بجوارها دائمًا في المساء. ولأن الكهرباء لا تعرف هذه الأماكن النائية، فقد كان النعاس يتسلل إلى عينيَّ مع حلول الظلام، ولأنني من سكان الريف، فقد كنتُ أنا وأقراني مثل الطيور والعصافير التي تقضي نهارها في الطيران بلا هوادة وتنتقل من مكان إلى مكان. لا شيء يدعو للقلق، فكل الناس أقارب كعائلة واحدة، وما أن يحلّ الظلام حتى يتسلل الفلاحون من الحقول عائدين إلى بيوت القرية التي ترقد في الظلام إلا من ضوء لمبات "الكيروسين" المنبعث من النوافذ وعتبات البيوت.
كنت أذهب إلى المدرسة التي تبعد عنا بأكثر من ٣ كم سيرًا على الأقدام، وما أن أعود حتى أرمي بحقيبتي متوجهًا إلى حجرة "الفُرن" التي تفوح منها رائحة الخبز الطازج، فأجد أمي و"أم عبد الرحمن" منهمكتين في إعداد الغداء للعائلة الكبيرة، فكانت هذه السيدة النبيلة تجمع ورائي ملابس المدرسة والحقيبة حتى لا تضيع متعلقاتي في أرجاء البيت الواسع. وبعد الانتهاء من الغداء أتجه إلى قطعة الأرض الواسعة بجوار القرية حيث تُقام مباريات كرة القدم، تبدأ المباراة بعد صلاة العصر وتنتهي بانتهاء الضوء، وربما استمرتْ صيفًا حتى المساء إذا كان القمرُ بدرًا.
في أخريات حياتها - رحمها الله - كانت تُصِرُّ على أن أصحبها إلى القرية المجاورة مرةً واحدةً كل شهر، حيث مكتب البريد، لكي تحصل على معاشها، وكنت أُعالِجُ الملل والانتظار بالاستماع إلى حكايات النساء كبيرات السن اللائي يرتدين عادةً ملابس سوداء ويجلسن بجوار مكتب البريد حتى يتَمَكَنَّ من الحصول على هذه النقود. كنت أقول لها غاضِبًا: لماذا تُصِرِّين على الذهاب كل شهر لكي تحصلي على هذه النقود التي لا نحتاج إليها؟ فقد كان أبي ميسور الحال، لكنها كانت تصرخ في وجهي وتقول إنها سيدة كبيرة يمكنها بهذه النقود أن تشتري أي شيء تحتاج إليه، أو تعطيني أو تعطي أيًّا من أطفال عائلتها النقود عند زيارتهم لها. وكنت أقول لها: بإمكانك أن تطلبي ما تحبين من أبي، لكنها كانت ترفض أن تمد يدها أبدًا وأن تطلب. كان هؤلاء الناس يتوارثون الإباء وعزة النفس كأنها جينات تنتقل معهم من جيل إلى جيل.
في أخريات حياتها أصيبت بالسرطان، هكذا قال الأطباء حين أخذها أبي إلى المدينة كي يبحث عن علاج لآلامها. عادت من عند الطبيب بالأدوية المختلفة التي لم تكن تهتم بها كثيرًا، ثم طلبتْ أن تنتقل إلى بيت جدتي لأمي (أختها) حتى تكون بجوارها. كنت في الصف الثالث أو الرابع الابتدائي حين ذهبتُ لزيارتها الأخيرة. دخلتُ إلى حجرتها، فإذا بجسدها النحيل قد تضاءل حتى أضحت كأنها شبح. أمسكتُ يدها الصغيرة وقبلتُها. جذبتني نحوها وقبلتني، ثم أدخلتْ يدَها إلى أسفل الوسادة وأخرجتْ ربع جنيه "٢٥ قرشًا" ووضعته في يدي. أمضيتُ معها بعض الوقت وودعتها وانصرفت حزينًا لأنني كنت أعلم بفطرة الأطفال أن هذا الذبول سوف ينتهي بها حتمًا إلى الموت.
بعد أسبوعين، كنتُ خارجًا من منزلنا، فوجدتُ في طريقي أحد أقاربي قادمًا إلى بيتنا، أشرتُ إليه مصافحًا، فقال لي: "أمك سالمة ماتت". منعني الحياء أنْ أُبْدِي تَأَثُّري بما سمعتُ وأكملتُ في طريقي. جلستُ في أحد الحقول باكيًا، تذكرتُ وقتها أن هذه السيدة قد تركتْ العالم بلا أبناء يدعون لها في صلاتهم، فقررتُ من وقتها أن أختصها بالدعاء بالرحمة والمغفرة. لا من أجل ما قدمتْه لي من رعاية، بل من أجل ألا يضيع المعروف بين الناس.

الثلاثاء، 16 يونيو 2020

كيف نرفض المثلية الجنسية دون أن نفقد إنسانيتنا

يتجدد النقاش دائمًا حول قضايا الحريات والمثلية الجنسية والحدود الفاصلة بين حرية الفرد في ممارسة ما يحب وبين منظومة القيم التي يجب أن تحكم أيَّ مجتمع. صدقْ أو لا تصدق، حتى مجتمع الغابة له قوانين صارمة ونظام لا يمكن للحيوانات الخروج عنه. نحن أيضًا - شئنا أم أبينا - نعيش في مجتمع له أعراف وتقاليد يجب على الناس الالتزام بها. صحيح أن هذه القيم والأعراف والعادات والتقاليد باتت في حاجة إلى النقاش والحوار بعد أن تغيرت الظروف، لكن النقاش حولها كعادة كل المجتمعات المأزومة، يتحول إلى نوع من الاتهام والتراشق بين طرفين لا يصلان إلى حل، بل يتجه الحوار والنقاش دائمًا إلى مزيد من ترسيخ فوبيا الآخر. مع الأسف، بدلاً من تحول النقاش واتساعه ليشمل الحريات والقوانين والشريعة، يتحول إلى جدل حول جواز طلب الرحمة للمثليين والمسيحيين بعد وفاتهم أم لا.
عاد النقاش إلى الواجهة بعد الرحيل المأساوي لـ "سارة حجازي" عضو حزب العيش والحرية والناشطة الحقوقية المعروفة بعد انتحارها هذا الأسبوع في منفاها الذي انتقلتْ إليه منذ عامين في كندا. كانت سارة قد أثارت من قبل كثيرًا من الجدل بعد رفعها علم قوس قزح خلال الحفل الغنائي الشهير لفرقة "مشروع ليلى" في شهر سبتمبر من عام ٢٠١٧. تم القبض على سارة بعد الحفل، وجَّهتْ النيابة إليها - وإلى آخرين - تهمة "الترويج للفكر المنحرف"، أي الترويج للشذوذ الجنسي أو ما بات يُسَمَّى مؤخرًا "المثلية الجنسية".
فارق كبير بين مصطلح "الشذوذ الجنسي" ومصطلح "المثليَّة الجنسية". الشذوذ الجنسي مصطلح به إدانة مسبقة، ويعني أن هذا الشخص غير طبيعي، إنه خارج على منظومة القيم التي حددتها الأعراف والتقاليد والأديان مسبقًا، ولهذا دفعتْ الميديا العالمية في اتجاه مصطلح "المثلية الجنسية"، وهو مصطلح محايد لا يعني سوى أن هذا الشخص يحس داخله بميل (طبيعي) نحو نفس جنسه، فإن كان رجلا فإنه يحس بالميل الجنسي والانجذاب ناحية الرجل، وإن كان امرأة فهي تحس بالميل والانجذاب نحو نفس جنسها من النساء. هذه الأيام بات مصطلح "مجتمع الميم" يشير إلى كل من لديه ميول جنسية تخالف الميول الطبيعية العادية.
العالم الآن - بمساعدة أفلام السينما والإعلام والصحافة والمنظمات الحقوقية - يسير في اتجاه اعتبار المثلية الجنسية سلوكًا غريزيًّا طبيعيًّا عند فئة من الناس، هؤلاء الناس يحسُّون بانجذاب نحو نفس النوع الذي ينتمون إليه، والفارق هنا أن هؤلاء المثليين -في نظر المدافعين عنهم- مدفوعون بقوة لا يمكنهم التحكم فيها. أي أن كل شخص يجد في داخله مثل هذا الشعور لا يجب أن يلوم نفسه أو يحس بالخجل، هو لم يختر هذا، فالطبيعة هي التي اختارت لهذا الشخص أن يكون على هذا النحو. بالعكس، عليه أن يفخر وأن يعلن عن هويته الجنسية.
هناك حالة من الإرهاب في العالم الآن لكل شخص يفتح فمه بكلمة استنكار واحدة للمثلية الجنسية. كثير من الناس في الغرب يفقدون وظائفهم ومستقبلهم السياسي لمجرد التصريح بأن المثلية الجنسية سلوك شاذ وغير طبيعي. هذا الإرهاب امتد إلى الجامعات والعلوم التطبيقية. الآن يدفع الباحثون في الاتجاه بأن المثلية الجنسية سلوك طبيعي تمامًا، بل هناك أبحاث ومقالات منشورة في مواقع إلكترونية ودوريات علمية تؤكد أن هذه المثلية الجنسية سلوك طبيعي تماما لدى الحيوانات والبشر. 
بإمكانك الآن في الغرب أن تشكك في أي شيء عدا مجموعة من "التابوهات" التي تكتسب بفعل الزمن قداسة لم تعد ترقى إليها قداسة الدين أو الإله نفسه. بإمكانك أن تلحد، وأن تسب الإله، وأن تضرب بأي فكر عرض الحائط، لكن إياك والتشكيك في أعداد الضحايا اليهود الذين ماتوا في "الهولوكوست" أثناء الحرب العالمية الثانية. أنا لا أتحدث هنا عن إنكار المحرقة، بل أتحدث عن مجرد التعرُّض للرواية السائدة ببعض النقد. الأمر نفسه مع نظرية دارون حول نشأة الكون والإنسان، كما يتكرر مع "المثلية الجنسية" ولكن بدرجة أشد قسوة.
في المقابل، يصرخ كثير من المتدينين محتجين على هذا الانفلات الأخلاقي. المسألة واضحة بالنسبة لهم تماما. هناك آيات لا لبس فيها في القرآن الكريم والكتب السماوية تستنكر الشذوذ وتعدُّه عملاً يستوجب العقوبة الإلهية كما جاء في قصة سيدنا لوط. إنهم يعتبرون أن الشذوذ يتم بإرادة بشرية كأي ذنب يقترفه الإنسان. إنه - في نظرهم - استسلام للشيطان واتِّباع الهوى. إنه سلوك يتخذه المرء بمحض إرادته لأن الله لا يعاقب على شيء لا دخل للإنسان فيه. الشذوذ الجنسي في نظر المتدينين خطيئة تتم بإرادة حرة ولهذا تستوجب العقاب. إنه ليس شيئًا يولد به الإنسان، وإنما خطيئة يفعلها بإرادته الحرة.
غير أن غباء بعض الناس يدفعهم إلى المطالبة بمزيد من الانتهاكات في حق "المثليين"، وينسى كثير منهم أن آلة الانتهاكات عندما تدور فإنها لا تفرق بين "المثليين" و"الطبيعيين". الحرية والكرامة الإنسانية ودولة القانون لا يمكنها أن تعمل بشكل انتقائي أبدًا. إما أن تكون من حق كل الناس وإما لا، فأصبحت آلة الانتهاكات تدور في جميع الاتجاهات، وكل فريق يقف مصفقًا لانتهاكات الفريق الآخر ولا يعلم أن دوره لم يأتِ بعد.
مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي، ظهرت مجموعة من المؤثرين الذين أصبحوا يحددون سلفًا السقف الذي يجب ألا تتجاوزه حين تتحدث عن المثلية الجنسية. إرهاب يرتدي ثيابًا ثقافية. هناك حالة من التطبيع الكامل مع المثلية. إما أن تقبل المثلية الجنسية كسلوك طبيعي، وتصفق لها وتشير بفخر وانفتاح إليها بوصفها علامة الحرية والتمدُّن، وإما أن ترفضها وتصبح داعشيًّا وظلاميًّا. إذا قلت إنك ترفض المثلية الجنسية وجدت الاتهام بـ "الدعشنة" في وجهك. الرائج هذه الأيام والطبيعي والأقرب إلى طبائع الأمور أن عليك أن تتقبل المثلية الجنسية تحت اسم الحرية، وليس من حقك على الإطلاق أن ترفضها من منظور ديني، لأن مثل هذا المنظور أصبح قديمًا وظلاميًّا.
زاد الطين بلَّةً حجمُ الانتهاكات الصارخة التي يتعرض لها المثليون عند القبض عليهم ومحاكمتهم. إنهم يتعرضون لمعاملة قاسية للغاية، كما أن العقاب يصبح مضاعفًا حينما يصفق الجهلاء لهذه الانتهاكات تحت دعوى أنهم "قوم لوط" الذين يجب إحراقهم. تستغل حكومات العالم الثالث هذا السُّعار والهستيريا والتصفيق نحو مزيد من إحكام السيطرة والاستبداد. يفرح السُّذَّج بمشاهد الإهانة والانتهاكات وسط تصفيق بعض الأغبياء الذين يعتقدون أن الحكومة تفعل هذا لأنها تحرس الأخلاق العامة، بينما كل ما تهتم به الحكومات هو إحكام السيطرة على الناس جميعًا. يعلم كل هؤلاء أن حراسة الحكومات والأنظمة للأخلاق هي آخر ما يمكن أن يصدِّقوه، لكنهم سعداء ومستمرون في التصفيق.
لماذا لا يفصل الناس بين إدانة "الشذوذ الجنسي" وبين امتهان كرامة أي إنسان؟ كل إنسان له الحق في حياة كريمة ومعاملة آدمية مهما كان جرمه. يجب أن يكون كل الناس أمام القانون سواء. هؤلاء الذين يُصَفِّقُون عند إلحاق الأذى بالمثليين لا يستطيعون أن يفتحوا فمهم بكلمة واحدة حين ينتقلون للحياة في الغرب، لأنهم يعرفون أن هذا التحريض على القتل قد يعرضهم لما لا تحمد عقباه. 
ينتشر حُرَّاس الأخلاق على مواقع التواصل الاجتماعي، وما أن يجدوا أيَّ منشور يتعاطف مع أيٍّ من "المثليين" إلا حولوه إلى محرقة. كأنهم ضباع تَتَحَلَّق حول جثة. الغريب أن كثيرًا من هؤلاء الناس يتبنى قيمًا شديدة الانفصال والتناقض، فالكثير من هؤلاء الناس ليس عنده أي مشكلة مع الانتهاكات التي تعانيها نساء العالم الثالث في الشوارع من تحرشات لفظية وجسدية، بل الكثير منهم يشارك فيها. كل هذا ليس به مشكلة، لكن المهم أن ينتقم من المثليين.
يمكن أن نرفض المثلية الجنسية بوصفها عملاً شاذًّا ترفضه الأديان السماوية، لكن التصفيق للأذى يحولنا إلى ضباع وقتلة. لماذا لا نصمت أمام جلال الموت؟ لماذا نفقد أخلاقنا كي نعلن أننا حُرَّاس الأخلاق؟ لماذا يعتقد بعض الناس أنهم مفوضون من قبل السماء لكي يوزعوا الجنة والنار على من مات من البشر؟ ولماذا يعتقد بعض المثقفين والحقوقيين في بلادنا أن الانفلات من كل ما هو عربي وإسلامي هو الطريق الوحيد للسعادة والتقدم؟ وأن على المرء في بلادنا إذا أراد أن يصبح مثقفًا وأن يصبح حرًّا لا تأتيه هذه الحرية إلا بإطلاق العنان لغرائزه الجنسية، كأن الحرية لا تمر إلا من فتحة الشرج.

السبت، 13 يونيو 2020

الأديان والعلوم الإنسانية في زمن القنابل الذرية

عندما بدأت أزمة فيروس كورونا تتابعت التدوينات الساخرة على مواقع الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي. كانت هذه التدوينات تسخر من الخطاب الديني عمومًا والإسلامي خاصَّةً. قال أحد أصدقائي: بينما تنشغل مراكز الأبحاث ومعامل الجامعات في العالم المتقدم الآن بالبحث عن عقار مضاد لهذا الفيروس اللعين، هناك مشايخ يفتشون في آيات القرآن كي يعلنوا للناس بعد اكتشاف العقار بأن لُقاح الفيروس موجود في القرآن منذ أكثر من ١٤ قرنًا. 
يعتقد صديقي أن وظيفة الخطاب الديني أن يعلم الناس الخضوع والاستكانة للحكام، وأن يجهزهم لقبول الاستبداد والديكتاتورية. فرجال الدين - طبقًا لاعتقاد صديقي - هم الصديق الوفي لكل حاكم ظالم، وهم أداته الفعَّالة من أجل إخضاع الإنسان وركوب ظهره.
قال صديق آخر: أنا مندهش من هؤلاء البلهاء الذين يعتقدون أن الدعاء والأحجبة وآيات القرآن الكريم يمكن أن تجلب علاجًا لهذا الفيروس الخطير. أعتقد أن كل أتباع التيار الديني في بلادنا بمسلميهم ومسيحييهم مرضى نفسيون وأصحاب إعاقة ذهنية ومنفصلون عن الواقع. العالم الآن في احتياج إلى جهود الباحثين في المعامل. أيهما أنفع للبشرية الآن: العالم الملحد الذي يحاول أن يكتشف علاجًا للفيروس أم شيوخ الفضائيات الذين يشغلون الناس في الأمور التافهة كدخول الحمام، وإعفاء اللحية، وتقصير الجلباب؟
إن هذه الكتابات الساخرة تضعنا أمام نقيضين: أولهما هو العلوم التجريبية الحديثة التي يدرسها الطلاب في كليات العلوم، والطب، والصيدلة، والحاسب الآلي، والهندسة بكل فروعها. والنقيض الثاني هو الأديان والعلوم الإنسانية كعلم الاجتماع والفلسفة والسياسة والأدب. يسأل بعض الباحثين في العلوم التجريبية الآن في تحدٍّ واضح قائلين: ما جدوى دراسة العلوم الاجتماعية في زمن الاكتشافات العلمية الحديثة والطائرات؟ ماذا تفيد الدراسات الاجتماعية والفلسفة والأدب في هذه الأيام التي يحتاج فيها الناس إلى الغذاء والدواء والسكن.
هل يأكل الناس مسرحيات شكسبير وقصائد المتنبي إذا أحسُّوا بالجوع؟ إذا احتاج مريض إلى تغيير قلب أو إجراء عملية لتوسيع الشرايين، فهل نقول له: اقرأ سورة الكهف حتى يأتي الشفاء من الله؟ كان صلاح عبد الصبور يقول إن قصيدة واحدةً تتحدث عن طريقة زراعة النباتات وموعدها وطرق الاعتناء بها ستكون أفضل للفلاحين في الحقول من ديوان المتنبي بأكمله وفقًا لهذا الفهم القاصر.
إذا كنت تعتقد عزيزي القارئ بأن هذا الكلام يقوله الناس على فيسبوك وتويتر فقط، فأنت مخطئ. هذا الخطاب قديم، ربما يعود إلى بدايات العصر الحديث، حين تمكَّن الإنسان - بفضل الاكتشافات العلمية - من الصعود إلى القمر، واكتشاف أدوية لأمراض كانت تفتك بنا في العصر القديم. لقد كنا نعتقد - نحن الذين نعيش في القرن الحادي والعشرين - أن أزمنة الكوليرا والطاعون قد انتهت إلى الأبد، فإذا بنا نقف عاجزين أمام فيروس لا يُرى بالعين المجردة. لقد اعتقد كثير من الأكاديميين والعلماء أنه آن الأوان لأن تطوي البشرية صفحة العلوم الإنسانية والأديان عمومًا لأنه لم يعد لها فائدة. لقد تمكن الإنسان من تفسير كثير من الظواهر، وابتكار كثير من الاختراعات التي جعلت من الإنسان سيدًا لهذا الكوكب. 
الحقيقة أن الكلام السابق ينطوي على عدد من المغالطات والأضاليل التي يجب أن نناقشها أولاً. إن هذه الحالة من التماهي بين الدين الذي نزل من السماء وبين القائمين بالخطاب الديني يجب أن تنتهي. إذا كان بعض القائمين على أمر الدين فاسدين، فما علاقة ذلك بالدين؟ إذا كان بعض حملة الخطاب الديني لا يعجبونك فلا يجب أن يمتد غضبك إلى الرسالة نفسها. صحيح أنَّ بعض القائمين على أمر الدين في أيامنا هذه قد أساؤوا إلى الدين بفتاواهم الغريبة وسلوكياتهم غير المسؤولة، لكننا في النهاية لا يجب أن نربط أخطاء الشخص بالرسالة التي يحملها. 
هذا الأمر يشبه أن يتحَمَّلَ الإسلامُ المسؤولية عن سلوكِ عصابات داعش، أو أن تتحمل المسيحيةُ المسؤولية عن جنون هتلر وموسوليني. إذا كان بعضُ المشايخ والقساوسة لا يعيشون إلا في ظل الحكام المستبدين، فالتاريخ يشهد بأن كثيرًا من علماء الدين كانوا صوت الحق الذي لم ترهبه عصاةُ الحاكم ولم يستجيبوا لإغراءات الحكام وذهبهم.
أما هؤلاء الذين يبحثون عن علاج لفيروس كورونا في القرآن أو في أي كتاب ديني، فإنهم يسيئون إلى الدين أيَّما إساءة. القرآن ليس كتابًا في العلم التجريبي، كما أنه ليس كتابًا في الطب. القرآن رسالة إلهية من الله للمؤمنين بها من البشر. وهنا يجب الإشارة إلى المغالطات العلمية والأخطاء الفادحة التي يقع فيها المروِّجُون لما يسمى (الإعجاز العلمي في القرآن الكريم). إن المتابعة الدقيقة للجهود التي بذلها بعض الأكاديميين - وأبرزهم الدكتور زغلول النجار - ستكشف عن هشاشة التفسيرات التي يبنون عليها نظرياتهم وتهافُتها، بالإضافة إلى الأخطاء العلمية الساذجة والإحالات الغامضة التي يقومون بها كي يبرروا تفسيراتهم. 
القرآن لا يحتاج إلى شهادة من أحد، كما أن الحق لا يُعرَفُ بالرجال على حد تعبير الأصوليين. القرآن رسالة في العقيدة تخاطب الإنسان العادي البسيط في المقام الأول. صحيح أن هناك بعض الإشارات العلمية في القرآن حول خلق الإنسان والنظر في الكون والطبيعة، لكنها إشارات عامة غير متخصصة تخاطب الإنسان في المطلق ولا تحتاج إلا إلى إنسان بسيط كي يفهمها. النظريات متغيرة وأحيانًا متناقضة، لكن الرسالة السماوية إذا انطوت على هذا التناقض فإنها تصبح والعدم سواء. ليس مطلوبًا من المؤمن أن يثبت صحةَ القرآن بالعلم، لأنه يُخْضِع ما هو إلهي لتصورات البشر ونظرياتهم. هل يصبح القرآن كتابًا صحيحًا إذا توافق مع نسبية أينشتاين؟ بينما إذا تعارض مع نظرية الجاذبية عند إسحق نيوتن، فهل نُهِيل عليه التراب؟
الإنسان كائن معقد يحتوي على المادة والروح، على السماوي والأرضي. العلوم التجريبية تنظر إلى العالم في قشرته الخارجية. إنها تفسر ما هو أمامها بالفعل، ولا ترفع بصرها إلى الجانب الغيبي والروحي. هناك أسئلة لا يستطيع العلم أن يجيب عنها. لماذا نحن موجودون على هذا الكوكب؟ ومن الذي أوجدنا؟ لماذا ينقسم الجنس البشري إلى ذكر وأنثى؟ إلى أين يذهب الإنسان بعد الموت؟ ما حقيقة هذه الروح التي تسكن أجسادنا؟ ولماذا يموت البعض صغارًا ويموت آخرون عجائز؟ لماذا يوجد الشر مقترنًا بالخير؟ والجمال مقترنًا بالقبح؟ 
لو كانت العلوم التجريبية كافية لسعادة الإنسان، فلماذا ينتحر الناس في الغرب؟ لماذا يشعر الإنسان بالغربة والقلق كلما تقدمت البشرية وكثرت الآلات والاختراعات من حولنا؟ لقد اعتقد كثير من الإسلاميين أن العلوم الاجتماعية والفلسفة لا قيمة لها، ولما سنحت لهم الفرصة للقيادة عجزوا وفوجئوا أنهم لا يعرفون معنى السياسة أو الاجتماع لأن الغالبية العظمى منهم متخصصون في الهندسة والطب والعلوم التجريبية. 
هل حقًا هذه العلوم التجريبية كافية دون قيم الحق والخير والجمال؟ هل تعتقد أن أوروبا غزت العالم بالعلوم الحديثة؟ لقد احتلت أوروبا العالم كله بنظريات كالداروينية الاجتماعية وكتابات مكيافيلي السياسية. وما كان يمكن أن تحتل بلادنا دون هذه النظريات العنصرية. إن رحلة الإنسان في الحياة بدون قيم الحق والخير والجمال تشبه الطائرة التي تحلق في السماء بدون وجهة تقصدها. الأديان والعلوم الإنسانية هي ما يعطينا المعنى لرحلتنا في الحياة.
رابط المقال في موقع ساسة بوست

الخميس، 4 يونيو 2020

خرافات مصرية وعربية - الجزء الأول

في بلادنا مجموعة من الأساطير الرائجة التي يؤمن بها الناس ولا يوجد أي دليل عقلي أو نقلي على صحتها. هذه الخرافات تنتشر بين الناس بشكل كبير وتمارس تأثيرًا سلبيًا على سلوكياتهم وعلى القرارات التي يتخذونها في حياتهم. إنها مستمرة ومتوغلة داخل النفوس بدرجة يصعب تفكيكها مما يؤثر سلبًا على حياة الناس. سوف أحاول أن أسرد بعضًا من هذه الأساطير وأناقش تأثيراتها السلبية على مجتمعاتنا:
1. مصر بلد محروسة:
هذه الأسطورة أسست لكثير من الشعور الزائف بالشوفينية والتفوق الذي يصل إلى حد العنصرية وازدراء الآخرين في مصر. إذا تحدثتَ إلى كثير من المصريين ستجد عندهم إيمانًا مترسخًا بأن بلدهم يتمتع بحصانة إلهية ضد أخطار الطبيعة. هذا الكلام ليس له أي سند من الشرع أو العلم. إن قوانين الفيزياء لا تفرق بين بلد وبلد، ولا بين منطقة وأخرى. لا توجد دولة محروسة وأخرى رُفِعَتْ عنها الحماية من الله. لا يوجد بلد في العالم يتمتع بحماية ذاتية. كل دول العالم إذا لم يدافع أهلها عنها فإنها تتعرض للأخطار والدمار، لا فرق في هذا بين القاهرة أو مكة أو الفاتيكان أو القدس. ومصر ليست استثناءً من ذلك.
لقد تعرَّضتْ أقدس الأماكن التي يعظمها المسلمون لكثير من الهجمات والتخريب على مدى التاريخ. لقد قُذِفَتْ الكعبة بالمنجنيق في خلافة يزيد بن معاوية حتى أن بعض أجزاء من الكعبة قد تعرض للاحتراق عام ٦٤ للهجرة بسبب امتناع بعض الصحابة عن مبايعة يزيد. كما حوصر المسجد الحرام حديثًا واضطرت الحكومة السعودية لإحضار فرقة كوماندوز من الخارج كي يحرروا المسجد الحرام من جهيمان العتيبي وجماعته التي حاولت احتلال المسجد واحتجاز الرهائن بداخله عام ١٩٧٩. كما يمكن اعتبار القدس بأنها المدينة التي شهدت أكبر مذابح على مر التاريخ وما زالتْ. كما تعرضتْ مصر في كثير من فترات التاريخ لمجاعات، وأوبئة، واحتلال، وحروب أهلكتْ معظم سكانها، بل كانت هذه الأوبئة واحدة من جنود الطبيعة التي تحافظ على التوازن البيئي. لا يوجد استثناء في هذا الأمر بين أي بلد وآخر. صحيح أن بعض الأماكن لها قيمة روحية عند أتباعها، لكن هذه القيمة الروحية لا توقف قوانين الفيزياء. ربما استطاع الأنبياء إيقاف قوانين الفيزياء بأمر من الله، لكن يظل هذا استثناءً لا قاعدة.
وعندما ظهرت جائحة كورونا منذ أواخر ديسمبر الماضي، كان الموت يحصد أرواح آلاف الإيطاليين والإسبان كل يوم أمام أعيننا، ونحن ننظر إليهم ولا نفعل شيئًا اعتقادًا منا أن الوباء لا يصيب مصر لأنها محروسة. و"النار لا تحرق مؤمنًا" كما اعتدنا أن نردد. والنتيجة أن هناك ماكينة موت قادمة ولا نملك حيالها إلا الدعاء. قطار بلا مكابح يجري بأقصى سرعة يطحن تحت عجلاته كثيرًا من أحبتنا دون أن يطرف له جفن.
يجب أن نكف عن ترديد هذه المقولة لأنها تخلق مجتمعًا متواكلاً يعتمد على ما تخبئه الأقدار من لطيف العناية الإلهية دون أن يتحرك ليدفع عن نفسه الخطر والهلاك. بلادنا مثل أي بلاد أخرى ليست محصنة ضد الأوبئة والمجاعات. الحراسة الحقيقية للبلد هي حراسة الشعوب الواعية لأوطانها. إنهم يعرفون أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، وأن عليهم أن يغيروا حياتهم إلى الأفضل حتى يستجيب لهم القدر. علينا أن نؤمن أن حراسة الوطن لا تكون إلا بتعب وعرق أبنائه، إنه طريق طويل جدا وشائك لأنه يعتمد على قوانين الطبيعة دون الاقتصار على انتظار الفرج من السماء.
2. الإسلام هو الحل:
عندما كنت صغيرًا في المرحلة المتوسطة والثانوية، كنت أحمل في جيبي وأنا عائد من المدرسة مصحفًا صغير الحجم. كان يحلو لي أن أخرجه من جيبي وأن أقف محدقًا في أصدقائي وأقول لهم بثقة: "في هذا الكتاب الحل لكل مشكلات العالم". مرت سنوات كثيرة، لكنني ما زلت مصدقًا هذه العبارة ومؤمنًا بها كل الإيمان.
لكن بعض الناس في بلادنا يعتقدون أن الإسلام يشبه ماكينة صناعة الكعك التي نضع فيها العجين من ناحية فَيَخْرُج لنا الكعكُ ناضجًا من الناحية الأخرى. الوصفة سهلة جدا. عليك بإحضار أي مجتمع ثم ضَعْهُ في "ماكينة الإسلام"، ثم بحول الله وقوته سوف يتشكَّل على الفور مجتمع يقود العالم. إن هذا الكلام مليء بالافتراء والباطل ويضر الإسلام أكثر مما ينفعه. كل المتخصصين يعرفون أن تجربة الحضارة الإسلامية خلال العصور الوسطى كانت تجربة عظيمة للغاية، لقد تركتْ وراءها إرثًا حضاريًا للبشرية، لكنه إرث زمانه، لا يمكن أن يكون ماكينة لصناعة الحاضر أبدا. كل فترة من فترات التاريخ ابنة زمانها ولا يمكن تكرارها بحذافيرها. لقد استجدَّتْ قضايا ومواقف وأزمات لم تشهدها البشرية من قبل. الحضارات لا يمكن استنساخها لكي تتكرر في أماكن أخر، كما لا يمكن تكرارها. يمكن الاستضاءة بقيمها والبدء من حيث انتهت، أما تكرارها فهذا - في رأيي - مستحيل أبدًا. التاريخ لا يعيد نفسه، والإنسان لا يعبر النهر مرتين كما قال الفلاسفة.
يعلم كل دارسي الفقه والشريعة الإسلامية مدى الجهود الجبارة التي نحتاج إليها من أجل النهوض بالشريعة الإسلامية. هل تصلح الشريعة الإسلامية بشكلها الماضوي للتطبيق في هذا الزمان؟ يوجد إجابتان: إذا كنت تقصد تلك الشريعة بحذافيرها التي وجدت في القرن السابع الميلادي والتي أسستْ للحضارة الإسلامية، فإن الإجابة لا.  لا يمكن أن تصلح لأن الحياة تغيرت كثيرًا ولم يعد ممكنًا في ظل التغيرات المتواصلة أن تواكب هذه الشريعة القديمة هذا العصر. تحتاج هذه الشريعة إلى اجتهاد وثورة.
أما إن كنت تقصد المقاصد العليا لهذه الشريعة وما يمكن أن نضيفه إليها من حلول عصرية عن طريق تجديد الفقه والمواريث والمعاملات، فالإجابة بالتأكيد نعم. الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، لكنها لا تصلح بمفردها، إنها في احتياج إلى جهود المؤمنين بها حتى يصبح الفقه مناسبا للعصر الذي نعيش فيه. لا يمكن أن أستخرج من بطون الكتب مجموعة من القوانين ثم أدفع بها إلى المشرعين وأقول لهم عليكم بتطبيق هذه القوانين لكي نصنع مجتمعًا عظيمًا. كل فلاسفة القانون يعلمون أن القوانين ابنة زمانها، وأن فرض القوانين من أعلى إلى أسفل يجعل منها قشرة خارجية وغطاءً براقًا فوق جسد ميت.

الاثنين، 1 يونيو 2020

ظواهر فيسبوكية عربية


·       الفيسبوك أحد أهم مواقع التواصل الاجتماعي في السنوات العشر الأخيرة. إنه ظاهرة اجتماعية شديدة التأثير. وليس من قبيل المبالغة أن نقول إن تطبيقات التواصل الاجتماعي تعتبر تاريخًا جديدًا في حياة البشر له ما بعده. لقد أصبح «فيسبوك» – شئنا أم أبينا – عالمًا شديد التعقيد والتنوع، وأصبح من اللازم على الأكاديميين وعلماء الاجتماع تحديدًا دراسة هذه الظاهرة وتحليلها من أجل الوصول إلى فهم يساعد على الاستفادة منها والتعامل مع النتائج السلبية الناتجة عن استخدامها.
·       هذا المقال محاولة لالتقاط بعض الظواهر المشتركة التي تميز مواقع التواصل الاجتماعي في العالم العربي، ولهذا أسميته "ظواهر فيسبوكية عربية". ليس من أهداف المقال التنظير أو تعديل سلوك أحد، لكنها مجرد ملاحظات، وفي النهاية كل شخص له مطلق الحرية في كتابة ما يريد أو في التعليق على ما يحب بالطريقة التي يفضلها.
·       صَدِّقْ أو لا تُصَدِّقْ، أنت لست نجمًا سينمائيًّا ولا تلعب كرة القدم في (مانشستر). أنت شخص عادي جدا مثلي ومثل كثير من الناس. هذا أيضًا أمر جيد جدا. الأمر لا يدعو لليأس أو الخجل، لا تحتاج أن تحصد مزيدًا من الإعجابات (لايكس)، ولا تحتاج أن تكون مشهورًا من الأساس، إن كان لك مائة من الأصدقاء والمعارف يحبونك ويبدون اهتمامًا بما تكتب فهذا أمر جيد، لسنا في احتياج أن نكون مشهورين كنجوم سينما أو رؤساء أندية حتى نشعر بالسعادة. الحياة العادية البسيطة جميلة. لا تجهد نفسك بإحصاء الذين يتابعونك أو يعجبون بصورك وتدويناتك. أنت شخص جميل بدون كل هذا - صدِّقني - ولا تحتاج إليه.
·       مع مرور الوقت بدأت تظهر الشرطة الفيسبوكية، ولا أقصد بها الشرطة الحكومية التي تقبض على الناس بسبب آرائهم السياسية، فهذا أمر اعتاد عليه الناس في بلادنا وأصبح طبيعيا كالماء والهواء، وإنما أقصد بشرًا عاديين من أهلنا وأصدقائنا يعتقدون أن مهمتهم في الحياة أن يعلقوا على ما يقوله الناس وأن يرشدوهم كما لو كانوا أطفالاً يحتاجون إلى تأديب. كل شخص يكتب أيَّ رأيي تنعقد له في الحال مشانق ومحاكمات لمجرد أنه أبدى رأيًا يخالف ما يعتقده الناس، وهذا أمر محبط جدًا. لا يجب أن نحاصر الناس بآرائنا أو نجبرهم على اعتناق أي فكرة لا يرغبون فيها. إن إضافة شرطة أخلاقية ودينية تعني مزيدًا من الرقابة على ما هو موجود ويحاصرنا في كل مكان.
·       إذا قرأت رأيا لا يعجبك فلا تغضب، بإمكانك أن تكتب رأيك كما يكتب الآخرون آراءهم، يمكنك أن تتجاهل التدوينات التي لا تعجبك. يمكنك أن تلغي متابعة الأصدقاء والمعارف الذين يستفزُّونك بآرائهم، لكن لا تعقد محاكمات للناس، ولا تتشاجر معهم على أتفه السباب. تذكَّرْ دائمًا أن هذه مواقع للتواصل الاجتماعي وليست للتنافر والتباغض الاجتماعي.
·       الفيسبوك في الأساس شكل من أشكال التواصل الاجتماعي، لكن بعض الناس يأخذون الأمر بجدية بالغة لا تتناسب على الإطلاق واجتماعية الموقع. إنهم يتحدثون كأنهم في محاضرة أو مؤسسة مهمتها التعليم والتربية، كل شخص من هؤلاء يبدو كأنه يدير حوارًا مع مجموعة من المفكرين والفلاسفة، لماذا تتحول مواقع تهدف في الأساس إلى تواصل الناس إلى مؤسسة أكاديمية؟ كأن المؤسسات الأكاديمية العربية لا يكفيها أنها معطلة وفاشلة ولا تقوم بوظيفتها فتحاول أن تمارس سخافاتها على تطبيقات التواصل الاجتماعي؟ نحن نعرف أن حياتنا الأكاديمية أصبحتْ خرابًا، لماذا ننقل فشلها إلى مواقع التواصل الاجتماعي؟ هذا لا يعني أنك ممنوع من الحديث الأكاديمي في الفيسبوك، بالتأكيد بإمكانك أن تفعل، لكن تذكَّرْ أنك لست في قاعة المحاضرات.
·       من الطبيعي أن تكون الأخبار السلبية هي الأوسع انتشارًا لأن الناس تتسابق على قراءتها، لكن انتشارها الواسع يخلق صورة زائفة بأن الدنيا في بلادنا أصبحت خرابا في كل شيء. صحيح أن عندنا كثيرًا من المشكلات، لكنها في النهاية بلادنا التي نحمل جنسيتها، وهي رغم صعوبة الحياة فيها أحب بلاد الله إلى قلوبنا. لماذا يبدو بعضنا كأنه في انتظار أن تنهار الدنيا من حوله ثم يركب أول طائرة ويرحل.
·       لا تنخدع بالمظاهر التي تراها أمامك على فيسبوك. هل شاهدت صورتي على حسابي الخاص؟ هل تعجبك؟ يبدو أن الملابس الرياضية التي أرتديها بلونها الأزرق غالية وأنيقة؟ ليس بالضرورة أن تكون الحقيقة كما تشاهدها. ربما - أقول ربما - أكون قد اشتريت هذه الملابس من متاجر للملابس المستعملة، وهذا يعني أن سعر هذه الملابس قد لا يتعدى ١٠ دولارات. بل ربما تكون ابتسامتي التي تغطي كامل وجهي مصطنعةً ولا تعبر عن الحقيقة. ما يدريك؟ ربما أكون حزينًا وعندي - لا قدر الله - مشكلات كثيرة. لا تنخدع بالمظاهر البراقة التي ربما تكون الحقيقة وراءها على النقيض مما تبدو.
·       كثير من الناس في بلادنا حياتهم خربة وفارغة بلا معنى، لكنهم بارعون تماما في رسم صورة مثالية وزائفة عنهم. إنهم حريصون على أن تبدو صورتهم على فيسبوك كأنهم أشخاص مهمين وناجحين. لا يهمهم في الحقيقة أن حياتهم خربة. المهم أن تبدو صورهم سعيدة أمام الناس. وبمرور الوقت تصبح حياتهم تمثيلية فارغة وأداء مسرحي باهت، ثم يكتشف الناس بالصدفة أنهم وحيدون وتعساء. لا يجب أن نفعل في أنفسنا مثل هذا. ما جدوى أن يرانا الناس سعداء بينما نحن في الحقيقة نشعر بالحزن والوحدة. يجب أن نصلح حياتنا في الواقع أولا، ثم نلتفت إلى مواقع التواصل لكي نهتم بصورتنا في أذهان الناس.
·       حياتنا الخاصة مهمة جدا. لماذا ننشر كل تفاصيل حياتنا على فيسبوك وإنستجرام وكأننا أبطال في حلقات تليفزيون الواقع؟ لماذا نرضى أن تكون حياتنا على المشاع هكذا؟ لماذا يعرف صديقي المقيم في الولايات المتحدة أنني زرت مطعم ماكدونالدز اليوم؟ ما قيمة أن أخبر الناس بهذه التفاصيل؟ يجب أن تكون لحياتنا الخاصة قداسة واحترام. لا يجب أن نتعامل مع حياتنا بهذا الاستخفاف. إذا كنت ذاهبًا الآن إلى ستاربكس، فلا داعي أن يعرف كوكب الأرض بالكامل مكان وجودك.

الأحد، 19 أبريل 2020

فيسبوك الذي أضحكنا ثم ضحك علينا

بدأتْ القصة معي عام ٢٠١٠. كانتْ شبكة فيسبوك في بدء انتشارها الواسع في المنطقة العربية وواصلت زحفها حتى ابتلعت الكوكب. كان الأمر بالنسبة لي ولغيري هديةً من السماء، ولُعبةً نتسلَّى بها كأطفال فقراء يدخلون مدينة ديزني لاند لأول مرة في حياتهم. هل هذا معقول؟ مساحة بيضاء أكتب عليها ما أحب، فإذا بكتابتي تتجول عبر حسابات الناس عن طريق المشاركة والتعليق والإعجاب؟ بالفعل، خلال عام واحد كنتُ أتواصل مع كثير من الأصدقاء الذين ظننتُ أنهم رحلوا إلى أماكن بعيدة ولن يعودوا، وتوالى دخول الناس على الشبكة حتى أصبحت كأنها يوم القيامة.
ملايين البشر بأسماء حقيقية ووهمية، ورموز، وأيقونات، وروابط، وإعلانات، وصور، وفيديوهات، وإعجابات، وأخبار صحيحة، وفَبْرَكات، وتعليقات بريئة، وأخرى تمتلئ بالكراهية والعنف. حروب كاملة تتم عبر العالم الافتراضي. رصاصها الكلمات. وقنابلها الصور والتعليقات. النمر الصغير الذي ربَّيناه في بيوتنا وأطعمناه خبزنا وظننَّا أنه لن يَعُضَّ اليد التي امتدَّتْ له بالحب، فإذا به يشتد ساعدُه ويستدير علينا ليأكلنا. القزم الصغير في الحكايات الأسطورية الذي كنا ننظر إليه باستهزاء وتعالٍ يتَضَخَّم في كل الاتجاهات حتى أصبحنا نحن بالنسبة له أقزامًا صغيرة نخاف أن يفتك بنا.
ما الذي تَغيَّرَ بعد هذه السنوات العشر؟ لماذا تحوَّل الكائن الأليف إلى سفَّاك دماء وقاتل محترف؟ لماذا انتهى الأمر بهذه الشبكة إلى أن أصبحت موضع اتهام وشكّ من قبل كل الناس؟ لماذا تحوَّل هذه الموقع التي بدأ صغيرًا على شبكة الإنترنت إلى كائن ضخم يكاد يبتلع كل الشبكة؟ أكثر من عشر سنوات من الأحداث جرتْ خلالها كثير من التغيرات التي كان فيسبوك وإخوانه شاهدين عليها ومؤرخين لأحداثها. ثورات، وانتفاضات، وتظاهرات، وأحداث شغب لم نكن نسمع عنها قبل فيسبوك وتويتر، وفجأة رأينا الرصاص والقنص على الهواء مباشرة، كما شاهدنا قتلةً مدججين بالسلاح والكراهية، يحملون كاميرات على رؤوسهم ويقتلون الناس في بث مباشر رآه العالم كله. لقد أصبحتْ الصور والفيديوهات أكثر أهمية من الكلمات والخطب والأشعار. تحوَّلتْ البشريةُ من بلاغة الكلمة والفكرة إلى بلاغة الصورة والفيديو. انقلاب كامل في تاريخ البشرية لا يقل عن اختراع الراديو والطباعة وصاروخ الفضاء.
لكن هذه الشبكات الاجتماعية الآن متهمة بزعزعة الاستقرار وتدبير المؤامرات على الدول والحكومات. إن فيسبوك في نظر هذه الحكومات جاء من أجل تغيير الخرائط وزَرْعِ الفتن والثورات. تُسَمِّي الحكوماتُ الشرق أوسطية مواقع التواصل الاجتماعي "حروبًا"، وتعطيها أوصافًا مثل "حروب الجيل الرابع". كانت هذه الأوطان في نظرهم مستقرة وأهلها كانوا سعداء وراضين بما هم فيه. ثم جاء كائن فيسبوك الخرافي بالصور عالية الدقة والفيديوهات الـ 4k لكي يتمرد الناس على حياتهم البسيطة وحكامهم الطيبين. لولا هذه الفتن التي تضرب بلا هوادة على الشاشات وأجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية لكان الناس يعيشون في هدوء واطمئنان حسب رأيهم. تعلَّم الناس من فيسبوك وتويتر الشكوى والتذمر والتطلُّع لتقليد الحياة الافتراضية التي يشاهدونها. اصطحب الفلاحون البسطاء في القرى هواتفهم الذكية إلى الحقول. عرفوا من خلالها أن هناك بلادًا غنية وعندها وسائل مواصلات أفضل من الحمار الذي يركبونه. رأى الفلاح في قريتنا أن السيدة زوجته ليست جميلة كما كان يعتقد، أخذ يقارن بينها وبين فتيات إنستجرام وتليفزيون الواقع في الشرق والغرب. لا يعلم المسكين أن هناك أطنانًا من مساحيق التجميل، والعدسات اللاصقة، ومرطبات البشرة، وفلاتر العدسات، وعمليات التجميل، والفوتوشوب، وتعديل زوايا التصوير التي تُحِيل النساء إلى كائنات ملائكية بدون أجنحة. ابتلع الفلاح المسكين الغصة في قلبه وما عاد يصدق إلا ما تراه عيناه.
لكن هناك أيضًا من يرفض هذه الاتهامات. يقول بعض الناس إن حياة الناس قبل فيسبوك كانت خرابا كما هي الآن. الذي حدث أن فيسبوك أخرج إلى السطح ما كان مغمورًا تحت الأرض. أبواب البيوت التي كانت مغلقة على المآسي أصبحت مفتوحة يشاهدها الناس عبر الفيديوهات، والتدوينات، والصور. فيسبوك لم يخترع الكراهية وإنما كان وسيلة لإظهارها فقط. كان الناس يتحدثون عن بلادهم كأنها آخر العالم. عرف الناس من فيسبوك أنهم جزء صغير من أجزاء أخرى وكائنات أخرى تشاركهم الحياة على كوكب الأرض. وسائل التواصل الاجتماعي قرَّبت المسافات، وعرف كل شخص يتألم أن هناك من يتألم مثله، فتشارك الجميع الألم وارتفعت الأصوات بالصراخ بعد أن كانوا صامتين. لم يعد المواطن يصدق أن "طفح المجاري" و"انتشار القمامة" في شوارع بلادنا أمور طبيعية. يمكنه الآن أن يشاهد شوارع "طوكيو" و"سيول" و"كوالا لامبور" تلمع مثل زجاج السيارات. لم يفسد فيسبوك حياتنا لأنها كانت فاسدة قبل مجيئه. كل الذي حدث أنه رفع الغطاء عن الجثة وكشف رائحة العفن. لا يجب أن نلوم فيسبوك. الأفضل أن نُنَظِّف ملابسنا.

كورونا الذي يحصد أرواحَنا مثل مِنْجَل

     لو كان فيروس "كورونا" مرضًا للفقراء فقط ما وقف العالم على قدم واحدة كي يبحث عن علاج يوقف هذا القطار المتجه بأقصى سرعة آخذًا في طريقه كل شيء. إنه لحسن الحظ لا يفرق بين غني أو فقير. تتسابق مراكز الأبحاث في العالم المتمدن كي تجد علاجًا لهذا الموت المجاني كي تنقذ شعوبها من هذا الوباء الفتاك.
     أخشى ما أخشاه أن ينجح العالم المتمدن في وقْفِ تَدَفُّقِ الفيروس، ثم يغلق حدوده ويتركنا في بلادنا فريسةً لهذا الموت دون أن يمد لنا يد المساعدة.
   إذا تخلصتْ الدولُ الأوروبية وأمريكا من الفيروس بعد أن يكمل دورة انتشاره لديها فإنه سوف يتحول إلى مشكلة الدول الفقيرة فقط. ربما ستحظى هذه الدول ببعض المعونات، لكن هذه الجائحة لن تصبح وقتها مشكلة السيد "ترامب" أو السيد "بوريس جونسون"، وإنما سيكون كورونا أداة الجنرالات والملوك والرؤساء في أفريقيا والشرق الأوسط لتخفيض عدد السكان.
      يتحرك الفيروس كأنه يسير بخطة محكمة. يتجه أولا نحو الصين وكوريا الجنوبية واليابان بمعدلات إصابة ووَفَيَات معقولة، ثم يقفز إلى أوروبا والولايات المتحدة ليصبح هناك أكثر شراسة كأنه السيدة العجوز في الحكايات الخرافية التي تَسِنُّ أسنانها ثم تلتهم كل مَنْ في طريقها.
        يبدو كورونا دائمًا قبل أن يصيبك كأنه "مشكلة شخص آخر"، لكنه ما أن يتجه نحوك - أو نحو شخصٍ تعرفه - حتى تتورط فيه بكل كيانك كما يتورط القتلة في دماء ضحاياهم.
      يخطو الفيروس نحو بلادنا ببطء، لكنه يسير بخطى ثابتة. يتعامل الناس في بلادنا مع الجائحة بالنكات والوصفات الطبية القديمة كما يتعاملون مع نزلات البرد، وهي وسيلة الشخص فاقد الحيلة الذي لا يملك من أمر نفسه شيئًا. إذا قرر الفيروس – لا قدر الله - أن يقيم في بلادنا لفترة، كما يقيم في أمريكا وأوروبا الآن، فإنه سيصطحب معه الكثير من الناس قبل أن يغادرنا.
    نتمنى أن يغير الفيروس من سلوكه في الطقس الحار. هذا هو الأمل الوحيد الذي نرجو من الله أن يتحقق الآن .
        لا أحب أن أكرر العبارات التي يحفظها الناس، لكن منذ أن حاصرنا هذا الوباء ترنُّ في أذني مقولة نجيب محفوظ: "لو نجونا فهي الرحمة، ولو هلكنا فهو العدل".
      في أوقات الأزمات الكبرى - مثل تلك التي نعيشها الآن - يعرف الناس قيمة أن يكون في بلادهم بنية تحتية جيدة. لقد انتصر الكوريون واستطاعوا أن يوقفوا تدفق الفيروس – وما زالوا حتى الآن - بفضل شبكات الاتصال الراقية، والطرق التي ليس لها حصر، والمواصلات الآدمية، والمستشفيات التي تمتلئ بها المدن. إن نظامهم الطبي يتمتع بكفاءة منقطعة النظير ولا يفرق بين الأغنياء والفقراء.
     الذي يعتقد أن كوريا انتصرت على الفيروس الآن وتمكنتْ من محاصرته بسبب البنية التحتية فقط فهو مخطئ، لكن السبب الأول - في رأيي - يعود إلى المواطن الكوري الذي يتصرف بحكمة ويعرف كيف يساعد الحكومة لأنه يثق في حكومته. أقصد أن المواطن الكوري هو شخص تستثمر حكومته في تعليمه وإعداده، حتى إذا مرت البلاد بظروف استثنائية استطاعت بفضل هذه التنشئة لمواطنيها أن تتجاوز المحنة بأقل الخسائر.
    أعتقد أن الدول التي تستثمر في التعليم والصحة – مثل ألمانيا وكوريا الجنوبية - هي الدول التي يمكنها أن تنجو من هذه المحرقة وأن تتعافى بسرعة، أما أولئك الذين لا يعرفون من الاستثمار سوى زرع مزيد من الخرسانة في الصحراء فهم الآن في موقف لا يُحْسَدون عليه.
        الاستثمار الآمن والمؤكد هو الاستثمار في الإنسان وتعليمه وتنميته، أما الاستثمار في الخرسانة والقصور والمظاهر التافهة فهو استثمار لا ينفع وقت الأزمات.
    من المبكر أن نقول بأن هذه الكارثة العالمية ستكون شهادة وفاة للنظام العالمي الحالي. إذا خرجتْ الولايات المتحدة وأوروبا بأقل الخسائر فلا شيء سيتغير على الإطلاق، إذا لم تتغير أمريكا وأوروبا فلن يتغير شيء. ربما ينهار الاتحاد الأوروبي أكثر، لكنه على كل حال يسير نحو النهاية.
   في الوقت الذي تتشاجر فيه الدول على المعدات الطبية وأجهزة التنفس الصناعي والأقنعة، هناك دول أخرى لا تهتم إلا بأن يقال عنها إنها تتبرع بالمعدات الطبية رغم حاجة مواطنيها الشديدة إلى تلك المعدات. يختطف الأوروبيون والأمريكان الأقنعة وأجهزة التنفس كأنهم قراصنة البحار. لقد وقف الرئيس الأمريكي مثل "ضبع جائع" يقول: "لن تحصل دولة في العالم على أي معدات قبل أن تحصل الولايات المتحدة على ما تحتاج إليه".
    مشهد الطبيبة التي ماتت جرَّاء إصابتها بالفيروس والقرية التي رفضت دفنها خوفًا من عدوى الفيروس مشهد مؤلم للغاية يختلط فيه الجهل بعمى القلب. كيف يتحول الناس في بلادنا إلى كائنات شريرة إلى هذه الدرجة؟ إن غابات أفريقيا بِسِبَاعِها الضارية أكثر رحمة على ساكنيها من هذه البلاد القاسية.

        بصراحة متناهية، كورونا ليس أول الأوبئة، ولن يكون آخرها، سوف يقيم معنا بعض الوقت وينصرف، لكن الوباء الحقيقي الذي يرفض أن يغادرنا وينهش في بلادنا بلا هوادة هو غياب الحريات والعدالة الاجتماعية. إذا استعاد المواطن في بلادنا السيطرة على مقدراته، فإن بإمكانه أن يهزم كل الأوبئة.

السبت، 16 مارس 2019

دروس مذبحة نيوزيلندا


·     يجب أن يكف العرب والمسلمون عن النواح والبكائيات التي لا فائدة منها لأن ذلك ليس له قيمة. إليكم المفاجأة. العالم لا يأبه بالضعفاء على الإطلاق ولا يهتم بهم. العالم لا يحترم إلا الأقوياء. التاريخ الإنساني يمتلئ بكثير من المذابح. الحربان العالميتان في القرن العشرين راح ضحيتهما أكثر من ١٠٠ مليون إنسان. ما الفارق إذا وضعنا بجانب هذه الملايين أعدادًا أقل؟
·     هذه المذبحة تاريخية. لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة. ستكون مُلهِمة للمجانين والمصابين بالإسلاموفوبيا في الأيام والسنوات القادمة. محطة مهمة من محطات الحقد والكراهية ضد الإسلام والأديان عمومًا. ليست مجرد جريمة كراهية من تلك الجرائم السابقة. هي جريمة مخطط لها بكفاءة ومنسجمة مع الموقف الفكري للشخص الذي ارتكبها. هذا شخص يحمل في رأسه وقلبه ميراث الكراهية الممتد لمئات السنين كما جاء في منشوره المطول الذي كتبه بنفسه على شبكة الإنترنت.
·     قيمة الإنسان على كوكب الأرض تتناسب طرديا مع قيمة الدولة التي يحمل جنسيتها. مقتل خمسين مواطن من الشرق الأوسط في بثِّ مباشر على موقع فيسبوك لن يساوي مقتل هذا العدد من سكان العالم الأول في أوروبا وأمريكا، ولا حتى يساوي نصفهم أو ربعهم. هناك مواطنون تتحرك من أجلهم جيوش، وفرق كوماندوز، وطائرات حربية لإنقاذهم، أو لإخراجهم علنًا أو في الخفاء من سجون دول أخرى والعودة بهم إلى بلادهم، بينما هناك مواطنون لا يتملكهم الرعب إلا عند المرور من أمام قنصليات بلادهم وسفاراتها في الخارج.
·     طالما أن المواطن العربي ليس له أي قيمة في بلاده فلن يكون له أي قيمة خارجها. بعيدا عن أي خلافات سياسية، هناك مواطن عربي تمَّ استدراجه إلى قنصلية بلاده - التي يلجأ إليها الناس طلبًا للحماية عادةً - وتم تقطيعه بمنشار تحت سمع وبصر العالم كله، ولا يُعرَف لجثته مكان إلى الآن. هل يمكن أن يكون لهذا المواطن قيمة خارج بلده؟ هل يمكن أن يشكل موت هؤلاء المواطنين من هذه الدول فارقًا كبيرًا؟ يجب أن نكون عاقلين. علينا أن نزن الأمور بميزان العقل والابتعاد عن العواطف قليلاً.
·     أصل الداء في مذبحة نيوزيلاندا أن بلاد العرب والمسلمين أصبحت في معظمها ميدانًا خصبًا للاستبداد والديكتاتورية، مما دفع كثيرًا من أبنائها إلى الهجرة واللجوء إلى أوروبا والولايات المتحدة ومن يدور في فلكها بحثًا عن حياة كريمة، أو فرارًا من مجازر الحرب، أو من أجل الحرية وممارسة الحياة الطبيعية التي تليق بالبشر. لو وَجَدَ هؤلاء الناس في بلادهم حياةً كريمة ما رحلوا عنها. معظم الذين ماتوا في المجزرة هاربون من حروب أهلية أو باحثون عن لقمة عيش بعد أن سُدَّتْ في وجوههم كل فُرص العيش الكريم.
·     يجب أن نتعلم من هذه المجزرة أن حق الحياة يجب أن يكون لجميع البشر بغض النظر عن أديانهم أو ألوانهم أو قومِيَّاتهم. نحتاج إلى الاتفاق على هذا المبدأ. قتل الناس مبدأ مرفوض يجب أن نصرخ بهذا في وجه كل دعاة الكراهية من كل الأديان. يجب أن يتوقف المسلمون بعد كل جريمة عن إنكار الصلة بين الإسلام والإرهاب. هذا التصرف نتائجه عكسية تماما، يتعامل كثير من المسلمين مع الإسلام من موقف متخاذل كأنه يحمل عارًا يبحث له عن مبرر ويدافع عنه. الشخص الذي لا يعتز بالإسلام عليه أن يغادره على الفور. لا حاجة للإسلام بهذا الخطاب الذليل الذي يُقسم بعد كل جريمة ارتكبها شخص أحمق بأن الجريمة لا علاقة لها بالإسلام. 
·     تثبت مجزرة نيوزيلندا أن التطرف والكراهية موجودان في كل مكان. لا يمكن أن يتحمل المسلمون وحدهم ضريبة الإرهاب والكراهية في العالم كله. لا يمكن قبول الأفكار التي تمتلئ بها عقول كثير من الناس بأن الإرهاب صناعة إسلامية. كل شخص يقتل هو شخص إرهابي قاتل ثم نضع نقطة. إلصاق القتل بالإسلام ليس له أي مبرر ولا يمكن القبول به. إن ترديد مليون شخص لفكرة خاطئة أو معلومة غير صحيحة لن يجعلها صحيحة أبدا.
·     الغريب في مجزرة نيوزيلندا أن قادة الغرب هم الذين نددوا بها واعتبروها جريمة كراهية. غريب أن يبتلع الناس في الشرق الأوسط والمنطقة العربية ألسنتهم، وأن يبحث بعضهم عن مبررات لهذه الجريمة. هذه الجريمة فرصة جيدة لإثبات أن الكراهية لا علاقة لها بأي دين، وقد دفع ثمنها ضحايا أبرياء. لا يجب أن تضيع هذه الدماء هدرًا.
·     رحم الله هؤلاء الضحايا الأبرياء وغيرهم من ضحايا الإرهاب والكراهية في كل مكان.