الثلاثاء، 27 أكتوبر 2020

الرئيس ماكرون وأزمته مع الإسلام

الإسلام هو الديانة الوحيدة في العالم الآن التي تناصبها العلمانيةُ الغربية العداء. كل أديان العالم تَمَّ علمنتُها من الداخل أو من الخارج ما عدا الإسلام. فالسواد الأعظم من المسلمين لا يقبلون بالعلمانية كنظام للحياة أو أسلوبًا لإدارة الدولة. والعلمانية - بإيجاز شديد - تعني الفصل التام أو الجزئي بين الديانة وبين الدولة، أي تصبح الديانة محض نصائح أخلاقية يمارسها الفرد داخل المسجد أو الكنيسة أو المعبد أو في حياته الخاصة، ولا تتجاوز ذلك إلى التشريعات أو سَنِّ القوانين.
تَمَّتْ عَلْمَنَةُ المسيحية منذ عصر النهضة بعد صراع مرير بين المجتمع والكنيسة المتمثلة في البابا وبقية رجال الدين. كانت الكنيسة عقبة كبيرة في طريق الحرية والتقدم العلمي آنذاك، ولم يكن هناك بد من إزاحتها بالكلية إذا أراد المجتمع أن ينهض بالطريقة التي نهضت بها أوروبا. الآن رضخت المسيحية تمامًا للعلمنة وصارت مجرد نصائح أخلاقية لا تتجاوزها إلا ربما في حالة الأحوال الشخصية. بينما القوانين والتشريعات ونظام الدولة بالكامل لا علاقة له بالدين. بإمكان الناس الآن في الغرب أن يصدروا التشريعات التي ربما تخالف الدين مخالفة تامة دون خشية من أحد.
يقول المنتقدون إن الإسلام ديانة بربرية تسيطر على الإنسان تماما كأنها تملكه، ولا تعطيه الفرصة لممارسة حريته. إنها تشغل كل لحظة من حياة الفرد. وهي الشريعة الوحيدة على كوكب الأرض التي ترافق الإنسان منذ أن يستيقظ إلى أن ينام. المسلم هو الشخص الوحيد في العالم الذي يتساءل إن كان "كل" ما يفعله يتوافق مع الدين أم لا. إذا أراد دخول الحمام فهناك آداب، وإذا أراد أن يأكل أو يشرب أو يخرج من البيت أو حتى إذا أراد أن يجامع زوجته فلا بد أن يلتزم بهذه الآداب. يمكن اختصار كل هذا في الآية القرآنية التالية: "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. لا شريك له. وبذلك أُمرت وأنا أول المسلمين".
يقول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون: "إن الإسلام يعيش اليوم أزمة في كل مكان بالعالم". الحقيقة أن الرجل لم يخطئ كثيرًا، فالإسلام بالفعل يعاني أزمة في العالم كله، ولا ينكر هذا إلا جاهل أو مكابر. لكن ما سَكَتَ عنه ماكرون أن العلمانية الفرنسية تعيش أزمة كبرى، كما أن الرأسمالية الغربية التي انتهت إلى تحويل المجتمعات إلى ما يشبه "السوبر ماركت" تعاني هي الأخرى أزمة كبرى. ولم يقل ماكرون إن الديانة اليهودية تعاني أزمة بعد أن اختطفتها الحركة الصهيونية، وصار كثير من الناس في العالم يعتبرون أن اليهودية هي الصهيونية، والصهيونية هي اليهودية. الأفكار الكبرى في العالم كله تعاني الآن من أزمات وجودية.
سَكَتَ الرئيس الفرنسي عن كل ما سبق ولم يتذكر من كل هذه الأزمات الوجودية إلا أزمة الإسلام. الرجل يعاني هو الآخر من أزمات سياسية طاحنة لم تهدأ منذ اليوم الأول من استلامه الحكم. ظل الفرنسيون في الشوارع طوال عام كامل خلال مظاهرات السترات الصفراء. تعيث فرنسا فسادًا في مستعمراتها الأفريقية دون أن نسمع كلمة واحدة عن نية فرنسا تقديم كلمة اعتذار واحدة عن المذابح البشعة التي ارتكبتها خلال الحقبة الاستعمارية التي أذاقت الشعوب الويلات في آسيا وأفريقيا. نسي الرئيس الفرنسي الأزمة التي تعانيها المسيحية في العالم. لقد تحولت كثير من الكنائس في الغرب المسيحي إلى بيوت مهجورة لا يرتادها أحد بعد أن غرقت أوروبا في موجات إلحاد بعد أن حوَّلتْ العلمانية الغربية والرأسمالية حياتهم إلى مادة بلا روح. كل هذا نسيه الرئيس الفرنسي ولم يتذكر إلا أزمة الإسلام.
هل يعاني الإسلام أزمة كما ذكر الرئيس الفرنسي؟ الحقيقة أن هذا السؤال يبدو لي كوميديًّا للغاية. نعم، الإسلام يعيش في أزمة وجودية طاحنة. لا نحتاج إلى مزيد من الأدلة على هذه المقولة. إذا سألت مواطنًا كوريًّا أو يابانيًّا أو أمريكيًّا أو في أي مكان في العالم عن فكرته عن الإسلام، فلن تزيد معلوماته عن أن الإسلام هو الأفكار العنيفة البربرية التي تفرضها المجموعات الإرهابية المسماة "الدولة الإسلامية" في المناطق التي تسيطر عليها. أو أن الإسلام هو الديانة البدوية القادمة من صحراء المملكة السعودية التي تخاصم الحداثة والتقدم وتفرض على المرأة تغطية الرأس والجسد.
يقول المنتقدون للإسلام: "لا توجد دولة إسلامية على وجه الأرض إلا وهي غارقة في الاستبداد والديكتاتورية. كل الدول العربية والإسلامية - مع استثناءات قليلة - هي دول غارقة في الفساد الإداري والمؤسسي ولا تمتلك قرارها أو مصيرها، وإنما هي دول تابعة للغرب". ما الصورة الإيجابية التي قدمها المسلمون للعالم لكي نعرف أن الإسلام ديانة عظيمة كما تبدو لكم أيها المسلمون؟ أنتم تقعون في منطقة استراتيجية في العالم، وفي بلادكم ثروات هائلة، لكنكم لا تقدمون للعالم شيئًا يستحق الاحترام. لقد استطاعت الدول الأوروبية أن ترتفع فوق اختلافاتها اللغوية والإثنية والدينية، وأن يتحدوا ويحولوا أوروبا إلى دولة واحدة. ماذا فعل المسلمون كي نصدق أن ديانتهم ديانة سلام ورحمة كما يدَّعون؟ هل هناك دليل أكثر من أن أي مواطن أمريكي أو أوروبي بإمكانه أن يزور كل البلاد العربية والإسلامية دون تأشيرة دخول واحدة، بينما إذا فكر مواطن عربي في زيارة بلد عربي، فإن عليه أن يقف في طوابير التأشيرات والجوازات وهو لا يعرف إذا كان بإمكانه أن يحصل على تأشيرة الدخول أم لا.
الحقيقة أن الإسلام ديانة منكوبة بأهلها وأتباعها، تحمل عارهم أينما وجدوا. فالمواطن العربي - في الغالب - يقدم للعالم مثالا لا يدعو إلى الفخر. يمكن القول بأن أعدى أعداء الإسلام لم يسئ إلى الإسلام بالقدر الذي أساء إليه المسلمون في كل مكان. إنهم بتصرفاتهم غير المسؤولة يقدمون رسالة مفادها أن الإسلام ديانة تدعو إلى التواكل والكسل، ولا تحترم الوقت، وليس عندها شيء يمكن أن تقدمه للبشرية.
تقول الحكمة القديمة بأن أكبر انتصار يمكن أن تنتصر به على أعدائك هو أن تكون ناجحا وقويًّا. الإسلام كما تقول الإحصائيات هو أوسع الديانات انتشارا على كوكب الأرض رغم حملات التحريض التي يواجهها. بل الغريب أنه كلما زادت حملات التحريض كلما زادت رقعة انتشاره بين الناس. المطلوب فقط أن يصبح المسلمون على قدر المسؤولية، لا أقصد هنا رجال السياسة والحكم، فقد نفضتْ المجتمعاتُ العربية يدها من هؤلاء تماما. أنا أقصد المسلم العادي الذي ربما يعمل طبيبا أو معلمًا أو محاميًّا أو أستاذًا في الجامعة. كل واحد من هؤلاء يجب أن يعرف أنه على ثغر من ثغور الإسلام يجب أن يحميه. يجب على كل مسلم أن يقدم نموذجًا راقيًا في سلوكه، وخاصة هؤلاء الذين يعيشون في بلاد غير إسلامية.
إن إصلاح صورة الإسلام لن تأتي بمزيد من الكراهية أو العنف. لقد شعر كثير من المسلمين بالمهانة جراء تصريحات الرئيس الفرنسي، لكن كل ما فعلوه أنهم غيروا صورهم على مواقع التواصل الاجتماعي كي تعبر عن هذا الغضب. حتى مواقع التواصل مع الأسف أنشأها غير المسلمين وهي تخضع لإرادتهم. إن اليوم الذي سيشاهد فيه الرئيس الفرنسي بلاد الإسلام موطنًا للحريات وتداول السلطة هو اليوم الذي لن يجرؤ فيه أن يقول إن الإسلام يعيش أزمة. عندما ينتج المسلمون غذاءهم بأيديهم، وعندما تصبح لهم كلمة مسموعة في العالم لن يصدق شخص كل الافتراءات التي يروجها الإعلام في العالم عن الإسلام. يفكر كثير من الناس في العالم بأن هذا اليوم بعيد جدا. لا بأس. "إنهم يرونه بعيدًا ونراه قريبا".