الأربعاء، 25 فبراير 2015

اللغة العربية في كوريا الجنوبية ... الواقع والآمال

عجيبٌ أمرُ الحضارة العربية الإسلامية ولغتِها، كلما حاصرها الأعداء بهراواتهم الغليظة وأظافرهم الحادة محاولين استئصال جذورها في مكان، نبتت لها جذورٌ في مكان آخر. لم أكن أصدق، أنا الجالس في صالة مطار القاهرة الدولي والمُحاصَر بآلاف الإحباطات والهزائم جرَّاء ما آل إليه حال الثورة المصرية في نهايات أغسطس 2013، منتظرًا الطائرة التي ستُقلني آلاف الكيلومترات إلى أقصى الأرض، أن أفتح عيني على واقعٍ جديد يدعو إلى الأمل والتفاؤل من حيث لا أدري. هل جربت شعور إنسان عاش يُدرِّس اللغة العربية في مصر أو في أي مكانٍ في العالم العربي لأكثر من عشر سنوات؟ نعم، إحساس بالغربة واليأس واللاجدوى، كاليتيم يشاهدُ ميراث أجداده العظام ينسحب إلى المتاحف وزوايا التاريخ، ويُخلِي مكانه للوافدين الجدد من لغات العالم المتقدم في غرب أوروبا والولايات المتحدة.
قصة اللغة العربية في كوريا واحدة من أجمل القصص التي يمكن للمرء أن يستمع إليها. ففي شهر مارس القادم سوف يحتفل قسم اللغة العربية - بجامعة هانكوك - بمرور خمسين عامًا على تأسيس القسم الذي يُعد أقدم أقسام اللغة العربية في كوريا الجنوبية التي وصل عددها إلى ستة أقسام في خمس جامعات. الأول في فرع جامعة هانكوكوك بالعاصمة سيول، والثاني في فرع نفس الجامعة بمنطقة "يونج إن". وفي العاصمة سيول هناك قسم ثالث للغة العربية في جامعة "ميونج جي". وهناك ثلاثة أقسام خارج العاصمة. الأول في جامعة بوسان والثاني في جامعة دانكوك، والثالث في أقصى الجنوب الغربي في مقاطعة جوانج جو في جامعة تشوسُن. بالإضافة إلى قسم اللغة العربية بكلية الدراسات العليا للترجمة GSIT في جامعة هانكوك الذي يمنح درجتي الماجستير والدكتوراه في الترجمة العربية لطلاب يختارهم القسم من أفضل خريجي أقسام اللغة العربية الستة بكوريا. يعود الفضل في تأسيس هذه الأقسام الستة إلى الرعيل الأول من الأساتذة الكوريين الذين سافر معظمهم طُلابًا في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي إلى مصر والأردن وسوريا للدراسة، وعادوا إلى كوريا ليؤسسوا هذه الأقسام التي تشهد الآن تزايدا كبيرا في نسبة الإقبال على دراسة اللغة العربية.
لكن الحدث الأكبر والأبرز في تاريخ اللغة العربية في كوريا لم يأت إلا منذ سنوات قليلة، حين اختارت الحكومة الكورية أن تكون اللغة العربية إحدى اللغات الثانية التي يمتحن فيها طلاب المرحلة الثانوية، من يومها واهتمام الطلاب باللغة العربية يزداد على حساب اللغات الذائعة الصيت كالإنجليزية والفرنسية. لقد أصبح أمرًا شائعًا الآن أن تستمع وأنت تسير في شوارع سيول إما إلى أحد الكوريين من طلاب أو خريجي الجامعات الكورية يتحدث العربية، أو من أحد العرب الذين تكاثرت أعدادهم في الآونة الأخيرة في كوريا. الحضور العربي في كوريا كان نادرًا جدا، أما في السنوات القليلة الماضية زاد اهتمام العرب بالحضور إلى كوريا وخاصة طلاب البعثات الذين أصبحوا يفضلون كوريا على الولايات المتحدة وأوروبا. ويتبقى في النهاية الإشارة إلى الجمعية الكورية للغة العربية والأدب العربي التي يزيد أعضاؤها على الخمسين، وهم يتألَّفون في معظمهم من أساتذة ودارسي اللغة العربية في الجامعات الكورية. وتُصدِر الجمعية مجلةً فصليةً أكاديمية مُحكَّمة تُعنَى بدراسات اللغة العربية والأدب العربي. وهؤلاء الأساتذة الكوريون يشكلون مجتمعًا شديد الترابط والارتباط بالعالم العربي، حيث يتوافدون في زيارات مستمرة على الجامعات العربية والمؤتمرات التي تعقد فيها.
وهناك أسباب متعددة لاهتمام الكوريين باللغة العربية. لقد شهدت كوريا في السنوات الأخيرة نهضة علمية واقتصادية واسعة، وزاد اتصالها بالشرق الأوسط بعد أن أصبحت المنطقة العربية سوقًا رائجة لمنتجات الشركات الكورية العملاقة مثل سامسونج وإل جي وكيا وهيونداي، مما دفع كثيرًا من الكوريين إلى المسارعة بدراسة اللغة العربية نظرًا لما تحققه هذه الدراسة لصاحبها من فرص عمل لا تُتاح لدارسي اللغات الأخرى. لقد صادفتُ كثيرًا من طلاب قسم اللغة العربية هنا يبدأون حياتهم العملية قبل التخرُّج خاصة المتفوقين منهم، لكن أهم ما يميز هؤلاء الدارسين هو حبهم الشديد للغة العربية وأهلها، بل ويتحول كثيرٌ من هؤلاء الطلاب إلى أصدقاء للعرب يدافعون عنهم في ظل الهجمة المسعورة التي تشنُّها الميديا العالمية على كل ما هو عربي أو مسلم. كل هذا في ظل تجاهل عربي تام من كافة السفارات والبعثات الدبلوماسية العربية المتواجدة على أرض كوريا، فيما عدا الملحق الثقافي السعودي الدكتور هشام عبد الرحمن خداوردي الذي لا يكف عن زيارة هذه الأقسام ويقوم بتمويل عدد من الأنشطة الثقافية التي تقوم بها بشكل دوري، ولولاه لم يكن هناك أي وجود عربي رسمي.
يَدرس الطلاب اللغة العربية والثقافة الإسلامية في ثمانية فصول دراسية تُسمَّى سبعة زائد واحد، يدرس الطلاب سبعة فصول دراسية في كوريا، ثم يذهبون إلى أحد الأقطار العربية للدراسة لمدة فصل دراسي واحد لإكمال دراستهم هناك، حيث يستمعون إلى اللغة واللهجات العربية بشكل مباشر، ثم يعودون وقد اكتسب كل منهم العربية باللهجة المصرية أو الأردنية أو التونسية. يجيد كثير من هؤلاء الطلاب الفصحى إجادة تامة، غير أنهم يعجزون في البداية على عن التفاهم مع العرب باللهجات العامية، لكن هذه المشكلة تزول بالتدريج كلما كانوا أكثر ارتباطًا بمن يتعرفون عليهم من العرب. وهكذا يتمكن طلاب في كوريا الجنوبية من تعلُّم اللغة العربية بسهولة بينما الطلاب العرب يتعثر أكثرهم في الحديث بالعربية الفصحى. كما يتخذ كل واحد من هؤلاء الدارسين اسمًا عربيًا يعرفه العرب من خلاله نظرًا لصعوبة الأسماء الكورية على الأجانب، مثل: صالح بارك، وأمين كيم، وأحلام كواك، ونبيلة يون، وغيرهم.
يشكو الأساتذة الكوريون من قلة المناهج الدراسية والكتب التعليمية التي يستخدمونها في تدريس اللغة العربية، لكن بعضهم يقوم مشكورًا بإعداد هذه المناهج والكتب. كم نتمنى أن تهتم المؤسسات الرسمية في العالم العربي باللغة العربية بالقدر الذي يهتم بها الكوريون. تحتاج العربية الحديثة إلى عدد من الكتب في تعليمها للأجانب، وهذا أمر – مع الأسف – يُقصِّر فيه العرب كثيرًا، كما نتمنى أن تتابع البعثات الدبلوماسية والملحقيات الثقافية العربية في كوريا الأنشطة التي تقوم بها هذه الجامعات وأن تدعمها معنويًا، وأن تُسهِّل لها بعض الصعوبات خاصة تلك التي يواجهها الطلاب الكوريون عند دراستهم في العالم العربي. أنا أعرف أنَّ كثيرًا من دولنا العربية غارقة الآن في مشكلاتها الداخلية بعد الثورات العربية الأخيرة، لكننا لا يجب أن ننسى أن لدينا أصدقاءً يحبون لغتنا ومجتمعاتنا ويتفانون في دراستها، ويستحقون منا أن نرعاهم وأن نهتم بهم. لقد أصبح أصدقاؤنا في العالم قليلين، ولا نريد أن نخسر كل يوم مزيدًا منهم.
رابط المقال في جريدة العربي الجديد