الثلاثاء، 7 يوليو 2020

في رثاء أم عبد الرحمن

لم تكن (أم عبد الرحمن) متزوجة، ولم يكن لديها أبناء. اكتشفتُ حين تفتحتْ عيناي على الدنيا أن لدى كل الأطفال أُمًّا واحدةً، بينما أنا أتأرجح بين اثنتين: أم رسمية هي التي أنجبتني، وأم أخرى هي التي ربتني وتولتْ رعايتي أنا وأختي التي تصغرني. كان هذا يسبب لي إزعاجًا كبيرًا في صغري، كان عليَّ أنْ أضيف اسم كل منهما بعد نداء "يا أمي" حتى تعرف أنها هي المقصودة بالنداء. كان كل الأطفال يقولون: (يا أمي) هكذا ببساطة فتستجيب لهم أمهاتهم، بينما كان عليَّ أن أقول: (يا أمي أمينة) أو (يا أمي سالمة) حتى تعرف السيدة أنها هي المقصودة بالنداء.
كانت (أمي سالمة) بيضاء نحيلة طويلة القامة، أو هكذا كنتُ أظن بسبب صِغَرِي وقِصَر قامتي وقتها، كانت فلاحةً بسيطةً عصبيةً رقيقةَ القلب مثلَ كثير من أهلنا في قرى الريف المصري البعيدة عن الحَضَر. وكانت تغضب لأقل الأشياء، كما كانت تسعدها أقلُ الأشياء. وكان عادة أهل الريف وقتها أن تتزوج الفتيات في العاشرة والحادية عشرة، بينما تبدأ الأسرة في الشعور بالقلق إذا وصلت الفتاة إلى سن الخامسة عشرة ولم تتزوج وقد تزوَّجتْ كلُ قريناتها من الجيران. غير أن هذه السيدة لم تتزوج، وقد شعرتُ بكثير من الخجل أن أسألها عن سبب عدم زواجها، فنحن أبناء القرى نعرف أن هناك أسئلة نفكر فيها فقط، بينما يستحيل أن ننطق بها على الملأ. 
كنت أعتقد أن "أم عبد الرحمن" ربما تكون خالتي، وهي تعيش معنا لأنها ليست متزوجة وليس لديها أبناء، لكنني اكتشفت أنَّ أمي كانت ابنةً وحيدةً لأمها، بينما "أم عبد الرحمن" هي خالة أمي وليست خالتي. سألت أمي: لماذا تنادين "أمي سالمة" بهذه الكُنية "أم عبد الرحمن" رغم أنها لم تتزوج وليس عندها ابن اسمه عبد الرحمن؟ فقالت أمي: إن الناس عندنا في الريف يا "صُلْح" -هكذا كانت تناديني- إذا لم تتزوج المرأة أو تزوجت ولم تنجب، فإنهم ينادونها باسم أخيها الذكر الأكبر، فإن كان اسم أخيها الأكبر "عبد الرحمن"، يصبح اسمها "أم عبد الرحمن". في تلك اللحظة عرفتُ أنها تحمل كُنية أخيها الذي يكبرها. ولأن هذه السيدة لم تتزوج، فكان الناس ينادونا "أم عبد الرحمن" تقديرًا لها واحترامًا لمشاعرها التي حُرِمَتْ من الأمومة.
لم تنل "أم عبد الرحمن" حظًّا من التعليم أو الثقافة، ولم يكن لديها إلا خبرات إنسانية اكتسبتها بالفطرة كعادة أهل الريف في ذلك الوقت، وأكاد أحلف لك عزيزي القارئ أن "أم عبد الرحمن" وشبيهاتها من نساء ذلك الزمان كُنَّ أشدّ قوةً وأكثر خبرةً بالحياة من خريجات الجامعات بأظافرهن المصقولة الملونة التي تخشى غسل الأطباق أو إعداد الطعام لعائلاتهنّ. كما أن هذه السيدة لم تذهب إلى المدرسة، ولم تكن تعرف القراءة والكتابة، إلا أنها كانت تحافظ على الفروض الخمسة في وقتها، كما كانت تستمع في خشوع إلى آيات القرآن الكريم المنبعثة من إذاعة البرنامج العام بصوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد رحمه الله. وكان لديها إيمان فطري وَتَوَكُّل على الله واطمئنان لا حدود له. ما الذي فعلتْه بنا المدارس والجامعات لنكون ضعفاء بهذا الشكل؟ هل كان يجب على المرء أن يكون فلاحًا بسيطًا حتى يختبر هذا الإيمانَ الفطريَّ النبيل؟
كانت جدتي - رحمها الله - تسكن في قرية مجاورة تبعد عن قريتنا حوالي ٣ كيلومترات، وكان علينا في ذلك الزمن كي ننتقل بين هذه القرى النائية أن نركب الحمار، ولهذا كان وجود "أم عبد الرحمن" في بيتنا له فوائد كبيرة، فقد كانت والدتي - رحمها الله - سيدة قوية الشخصية حازمة في التربية، فكانت "أم عبد الرحمن" هي السد المنيع الذي يحول دون وصول "العصا" إلى مؤخرتي أو جسدي. كانت تدافع عني وعن أختي بكل شراسة، ولم تكن تسمح لأحد بالاقتراب منا، وكانت تهدد دائمًا بأنها ستجمع ملابسها وتغادر المنزل بلا رجعة. فكان الجميع يأخذ تهديدها على محمل الجد. وكنت آخذ مكاني بجوارها دائمًا في المساء. ولأن الكهرباء لا تعرف هذه الأماكن النائية، فقد كان النعاس يتسلل إلى عينيَّ مع حلول الظلام، ولأنني من سكان الريف، فقد كنتُ أنا وأقراني مثل الطيور والعصافير التي تقضي نهارها في الطيران بلا هوادة وتنتقل من مكان إلى مكان. لا شيء يدعو للقلق، فكل الناس أقارب كعائلة واحدة، وما أن يحلّ الظلام حتى يتسلل الفلاحون من الحقول عائدين إلى بيوت القرية التي ترقد في الظلام إلا من ضوء لمبات "الكيروسين" المنبعث من النوافذ وعتبات البيوت.
كنت أذهب إلى المدرسة التي تبعد عنا بأكثر من ٣ كم سيرًا على الأقدام، وما أن أعود حتى أرمي بحقيبتي متوجهًا إلى حجرة "الفُرن" التي تفوح منها رائحة الخبز الطازج، فأجد أمي و"أم عبد الرحمن" منهمكتين في إعداد الغداء للعائلة الكبيرة، فكانت هذه السيدة النبيلة تجمع ورائي ملابس المدرسة والحقيبة حتى لا تضيع متعلقاتي في أرجاء البيت الواسع. وبعد الانتهاء من الغداء أتجه إلى قطعة الأرض الواسعة بجوار القرية حيث تُقام مباريات كرة القدم، تبدأ المباراة بعد صلاة العصر وتنتهي بانتهاء الضوء، وربما استمرتْ صيفًا حتى المساء إذا كان القمرُ بدرًا.
في أخريات حياتها - رحمها الله - كانت تُصِرُّ على أن أصحبها إلى القرية المجاورة مرةً واحدةً كل شهر، حيث مكتب البريد، لكي تحصل على معاشها، وكنت أُعالِجُ الملل والانتظار بالاستماع إلى حكايات النساء كبيرات السن اللائي يرتدين عادةً ملابس سوداء ويجلسن بجوار مكتب البريد حتى يتَمَكَنَّ من الحصول على هذه النقود. كنت أقول لها غاضِبًا: لماذا تُصِرِّين على الذهاب كل شهر لكي تحصلي على هذه النقود التي لا نحتاج إليها؟ فقد كان أبي ميسور الحال، لكنها كانت تصرخ في وجهي وتقول إنها سيدة كبيرة يمكنها بهذه النقود أن تشتري أي شيء تحتاج إليه، أو تعطيني أو تعطي أيًّا من أطفال عائلتها النقود عند زيارتهم لها. وكنت أقول لها: بإمكانك أن تطلبي ما تحبين من أبي، لكنها كانت ترفض أن تمد يدها أبدًا وأن تطلب. كان هؤلاء الناس يتوارثون الإباء وعزة النفس كأنها جينات تنتقل معهم من جيل إلى جيل.
في أخريات حياتها أصيبت بالسرطان، هكذا قال الأطباء حين أخذها أبي إلى المدينة كي يبحث عن علاج لآلامها. عادت من عند الطبيب بالأدوية المختلفة التي لم تكن تهتم بها كثيرًا، ثم طلبتْ أن تنتقل إلى بيت جدتي لأمي (أختها) حتى تكون بجوارها. كنت في الصف الثالث أو الرابع الابتدائي حين ذهبتُ لزيارتها الأخيرة. دخلتُ إلى حجرتها، فإذا بجسدها النحيل قد تضاءل حتى أضحت كأنها شبح. أمسكتُ يدها الصغيرة وقبلتُها. جذبتني نحوها وقبلتني، ثم أدخلتْ يدَها إلى أسفل الوسادة وأخرجتْ ربع جنيه "٢٥ قرشًا" ووضعته في يدي. أمضيتُ معها بعض الوقت وودعتها وانصرفت حزينًا لأنني كنت أعلم بفطرة الأطفال أن هذا الذبول سوف ينتهي بها حتمًا إلى الموت.
بعد أسبوعين، كنتُ خارجًا من منزلنا، فوجدتُ في طريقي أحد أقاربي قادمًا إلى بيتنا، أشرتُ إليه مصافحًا، فقال لي: "أمك سالمة ماتت". منعني الحياء أنْ أُبْدِي تَأَثُّري بما سمعتُ وأكملتُ في طريقي. جلستُ في أحد الحقول باكيًا، تذكرتُ وقتها أن هذه السيدة قد تركتْ العالم بلا أبناء يدعون لها في صلاتهم، فقررتُ من وقتها أن أختصها بالدعاء بالرحمة والمغفرة. لا من أجل ما قدمتْه لي من رعاية، بل من أجل ألا يضيع المعروف بين الناس.