الأربعاء، 23 سبتمبر 2015

ذكريات

كل شيء يبدو في تلك اللحظة عاديا، حتى إذا توقفنا للحظات قليلة، ربما لا تزيد عن دقيقة أو دقيقتين في انتظار الحافلة، أو في انتظار أن تفتح إشارة المرور، أو في انتظار دخول قاعة المحاضرات، حتى ينفجر شلال هادر من الذكريات. شلال يكتسح كل ما يبدو أمامه كالإعصار. تسونامي يجرف كل المشاهد التي كنت أظن أنها رحلت إلى قاع الذاكرة، ويأتي بها ناصعة كأنها حدثت بالأمس. أول يوم دراسي في المرحلة الابتدائية. أول حقيبة مدرسية وأول عصاة تهبط على أصابعي من أستاذ غليظ القلب. الإحساس بالبلاهة بعد خيانة صديق. أول مرة ينزل الحب ضيفاً على القلب. أصابع ابنتي المتناهية في الصغر بعد ولادتها مباشرة. وجه أمي الراحلة حين رأيتها لآخر مرة. أصابع أبي الممتلئة تصفعني لأول وآخر مرة حين كسرتُ الراديو العتيق الذي يستمع فيه إلى إذاعة لندن. أول راتب بعد أول شهر عمل في الإسكندرية. أول مرة أغادر القرية سعيدا إلى مدينة الفيوم التي كنت أعتقد أنها في نهاية العالم. أول شعرة بيضاء مختبئة في رأسي. أول أذان أرفعه حين كنت مراهقا صغيرا في مسجد القرية ولم يأت أحد للصلاة فصليت إماما ومأموما ومؤذنا. ملابس العيد التي كانت تجعلني لا أعرف طعم النوم حتى أرتديها صباحا. البكاء ليلا حتى الصباح عند أول إحساس بالقهر. كل هذا يأتي في لحظة واحدة لا يقطع تدفقها سوى تغير الألوان في إشارة المرور أو حضور الحافلة. هل نحن حقا نسير وحيدين في هذه الدنيا؟ كيف يكون الإنسان وحيدا وفي رأسه كل هذه الذكريات؟