الثلاثاء، 16 يونيو 2020

كيف نرفض المثلية الجنسية دون أن نفقد إنسانيتنا

يتجدد النقاش دائمًا حول قضايا الحريات والمثلية الجنسية والحدود الفاصلة بين حرية الفرد في ممارسة ما يحب وبين منظومة القيم التي يجب أن تحكم أيَّ مجتمع. صدقْ أو لا تصدق، حتى مجتمع الغابة له قوانين صارمة ونظام لا يمكن للحيوانات الخروج عنه. نحن أيضًا - شئنا أم أبينا - نعيش في مجتمع له أعراف وتقاليد يجب على الناس الالتزام بها. صحيح أن هذه القيم والأعراف والعادات والتقاليد باتت في حاجة إلى النقاش والحوار بعد أن تغيرت الظروف، لكن النقاش حولها كعادة كل المجتمعات المأزومة، يتحول إلى نوع من الاتهام والتراشق بين طرفين لا يصلان إلى حل، بل يتجه الحوار والنقاش دائمًا إلى مزيد من ترسيخ فوبيا الآخر. مع الأسف، بدلاً من تحول النقاش واتساعه ليشمل الحريات والقوانين والشريعة، يتحول إلى جدل حول جواز طلب الرحمة للمثليين والمسيحيين بعد وفاتهم أم لا.
عاد النقاش إلى الواجهة بعد الرحيل المأساوي لـ "سارة حجازي" عضو حزب العيش والحرية والناشطة الحقوقية المعروفة بعد انتحارها هذا الأسبوع في منفاها الذي انتقلتْ إليه منذ عامين في كندا. كانت سارة قد أثارت من قبل كثيرًا من الجدل بعد رفعها علم قوس قزح خلال الحفل الغنائي الشهير لفرقة "مشروع ليلى" في شهر سبتمبر من عام ٢٠١٧. تم القبض على سارة بعد الحفل، وجَّهتْ النيابة إليها - وإلى آخرين - تهمة "الترويج للفكر المنحرف"، أي الترويج للشذوذ الجنسي أو ما بات يُسَمَّى مؤخرًا "المثلية الجنسية".
فارق كبير بين مصطلح "الشذوذ الجنسي" ومصطلح "المثليَّة الجنسية". الشذوذ الجنسي مصطلح به إدانة مسبقة، ويعني أن هذا الشخص غير طبيعي، إنه خارج على منظومة القيم التي حددتها الأعراف والتقاليد والأديان مسبقًا، ولهذا دفعتْ الميديا العالمية في اتجاه مصطلح "المثلية الجنسية"، وهو مصطلح محايد لا يعني سوى أن هذا الشخص يحس داخله بميل (طبيعي) نحو نفس جنسه، فإن كان رجلا فإنه يحس بالميل الجنسي والانجذاب ناحية الرجل، وإن كان امرأة فهي تحس بالميل والانجذاب نحو نفس جنسها من النساء. هذه الأيام بات مصطلح "مجتمع الميم" يشير إلى كل من لديه ميول جنسية تخالف الميول الطبيعية العادية.
العالم الآن - بمساعدة أفلام السينما والإعلام والصحافة والمنظمات الحقوقية - يسير في اتجاه اعتبار المثلية الجنسية سلوكًا غريزيًّا طبيعيًّا عند فئة من الناس، هؤلاء الناس يحسُّون بانجذاب نحو نفس النوع الذي ينتمون إليه، والفارق هنا أن هؤلاء المثليين -في نظر المدافعين عنهم- مدفوعون بقوة لا يمكنهم التحكم فيها. أي أن كل شخص يجد في داخله مثل هذا الشعور لا يجب أن يلوم نفسه أو يحس بالخجل، هو لم يختر هذا، فالطبيعة هي التي اختارت لهذا الشخص أن يكون على هذا النحو. بالعكس، عليه أن يفخر وأن يعلن عن هويته الجنسية.
هناك حالة من الإرهاب في العالم الآن لكل شخص يفتح فمه بكلمة استنكار واحدة للمثلية الجنسية. كثير من الناس في الغرب يفقدون وظائفهم ومستقبلهم السياسي لمجرد التصريح بأن المثلية الجنسية سلوك شاذ وغير طبيعي. هذا الإرهاب امتد إلى الجامعات والعلوم التطبيقية. الآن يدفع الباحثون في الاتجاه بأن المثلية الجنسية سلوك طبيعي تمامًا، بل هناك أبحاث ومقالات منشورة في مواقع إلكترونية ودوريات علمية تؤكد أن هذه المثلية الجنسية سلوك طبيعي تماما لدى الحيوانات والبشر. 
بإمكانك الآن في الغرب أن تشكك في أي شيء عدا مجموعة من "التابوهات" التي تكتسب بفعل الزمن قداسة لم تعد ترقى إليها قداسة الدين أو الإله نفسه. بإمكانك أن تلحد، وأن تسب الإله، وأن تضرب بأي فكر عرض الحائط، لكن إياك والتشكيك في أعداد الضحايا اليهود الذين ماتوا في "الهولوكوست" أثناء الحرب العالمية الثانية. أنا لا أتحدث هنا عن إنكار المحرقة، بل أتحدث عن مجرد التعرُّض للرواية السائدة ببعض النقد. الأمر نفسه مع نظرية دارون حول نشأة الكون والإنسان، كما يتكرر مع "المثلية الجنسية" ولكن بدرجة أشد قسوة.
في المقابل، يصرخ كثير من المتدينين محتجين على هذا الانفلات الأخلاقي. المسألة واضحة بالنسبة لهم تماما. هناك آيات لا لبس فيها في القرآن الكريم والكتب السماوية تستنكر الشذوذ وتعدُّه عملاً يستوجب العقوبة الإلهية كما جاء في قصة سيدنا لوط. إنهم يعتبرون أن الشذوذ يتم بإرادة بشرية كأي ذنب يقترفه الإنسان. إنه - في نظرهم - استسلام للشيطان واتِّباع الهوى. إنه سلوك يتخذه المرء بمحض إرادته لأن الله لا يعاقب على شيء لا دخل للإنسان فيه. الشذوذ الجنسي في نظر المتدينين خطيئة تتم بإرادة حرة ولهذا تستوجب العقاب. إنه ليس شيئًا يولد به الإنسان، وإنما خطيئة يفعلها بإرادته الحرة.
غير أن غباء بعض الناس يدفعهم إلى المطالبة بمزيد من الانتهاكات في حق "المثليين"، وينسى كثير منهم أن آلة الانتهاكات عندما تدور فإنها لا تفرق بين "المثليين" و"الطبيعيين". الحرية والكرامة الإنسانية ودولة القانون لا يمكنها أن تعمل بشكل انتقائي أبدًا. إما أن تكون من حق كل الناس وإما لا، فأصبحت آلة الانتهاكات تدور في جميع الاتجاهات، وكل فريق يقف مصفقًا لانتهاكات الفريق الآخر ولا يعلم أن دوره لم يأتِ بعد.
مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي، ظهرت مجموعة من المؤثرين الذين أصبحوا يحددون سلفًا السقف الذي يجب ألا تتجاوزه حين تتحدث عن المثلية الجنسية. إرهاب يرتدي ثيابًا ثقافية. هناك حالة من التطبيع الكامل مع المثلية. إما أن تقبل المثلية الجنسية كسلوك طبيعي، وتصفق لها وتشير بفخر وانفتاح إليها بوصفها علامة الحرية والتمدُّن، وإما أن ترفضها وتصبح داعشيًّا وظلاميًّا. إذا قلت إنك ترفض المثلية الجنسية وجدت الاتهام بـ "الدعشنة" في وجهك. الرائج هذه الأيام والطبيعي والأقرب إلى طبائع الأمور أن عليك أن تتقبل المثلية الجنسية تحت اسم الحرية، وليس من حقك على الإطلاق أن ترفضها من منظور ديني، لأن مثل هذا المنظور أصبح قديمًا وظلاميًّا.
زاد الطين بلَّةً حجمُ الانتهاكات الصارخة التي يتعرض لها المثليون عند القبض عليهم ومحاكمتهم. إنهم يتعرضون لمعاملة قاسية للغاية، كما أن العقاب يصبح مضاعفًا حينما يصفق الجهلاء لهذه الانتهاكات تحت دعوى أنهم "قوم لوط" الذين يجب إحراقهم. تستغل حكومات العالم الثالث هذا السُّعار والهستيريا والتصفيق نحو مزيد من إحكام السيطرة والاستبداد. يفرح السُّذَّج بمشاهد الإهانة والانتهاكات وسط تصفيق بعض الأغبياء الذين يعتقدون أن الحكومة تفعل هذا لأنها تحرس الأخلاق العامة، بينما كل ما تهتم به الحكومات هو إحكام السيطرة على الناس جميعًا. يعلم كل هؤلاء أن حراسة الحكومات والأنظمة للأخلاق هي آخر ما يمكن أن يصدِّقوه، لكنهم سعداء ومستمرون في التصفيق.
لماذا لا يفصل الناس بين إدانة "الشذوذ الجنسي" وبين امتهان كرامة أي إنسان؟ كل إنسان له الحق في حياة كريمة ومعاملة آدمية مهما كان جرمه. يجب أن يكون كل الناس أمام القانون سواء. هؤلاء الذين يُصَفِّقُون عند إلحاق الأذى بالمثليين لا يستطيعون أن يفتحوا فمهم بكلمة واحدة حين ينتقلون للحياة في الغرب، لأنهم يعرفون أن هذا التحريض على القتل قد يعرضهم لما لا تحمد عقباه. 
ينتشر حُرَّاس الأخلاق على مواقع التواصل الاجتماعي، وما أن يجدوا أيَّ منشور يتعاطف مع أيٍّ من "المثليين" إلا حولوه إلى محرقة. كأنهم ضباع تَتَحَلَّق حول جثة. الغريب أن كثيرًا من هؤلاء الناس يتبنى قيمًا شديدة الانفصال والتناقض، فالكثير من هؤلاء الناس ليس عنده أي مشكلة مع الانتهاكات التي تعانيها نساء العالم الثالث في الشوارع من تحرشات لفظية وجسدية، بل الكثير منهم يشارك فيها. كل هذا ليس به مشكلة، لكن المهم أن ينتقم من المثليين.
يمكن أن نرفض المثلية الجنسية بوصفها عملاً شاذًّا ترفضه الأديان السماوية، لكن التصفيق للأذى يحولنا إلى ضباع وقتلة. لماذا لا نصمت أمام جلال الموت؟ لماذا نفقد أخلاقنا كي نعلن أننا حُرَّاس الأخلاق؟ لماذا يعتقد بعض الناس أنهم مفوضون من قبل السماء لكي يوزعوا الجنة والنار على من مات من البشر؟ ولماذا يعتقد بعض المثقفين والحقوقيين في بلادنا أن الانفلات من كل ما هو عربي وإسلامي هو الطريق الوحيد للسعادة والتقدم؟ وأن على المرء في بلادنا إذا أراد أن يصبح مثقفًا وأن يصبح حرًّا لا تأتيه هذه الحرية إلا بإطلاق العنان لغرائزه الجنسية، كأن الحرية لا تمر إلا من فتحة الشرج.

السبت، 13 يونيو 2020

الأديان والعلوم الإنسانية في زمن القنابل الذرية

عندما بدأت أزمة فيروس كورونا تتابعت التدوينات الساخرة على مواقع الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي. كانت هذه التدوينات تسخر من الخطاب الديني عمومًا والإسلامي خاصَّةً. قال أحد أصدقائي: بينما تنشغل مراكز الأبحاث ومعامل الجامعات في العالم المتقدم الآن بالبحث عن عقار مضاد لهذا الفيروس اللعين، هناك مشايخ يفتشون في آيات القرآن كي يعلنوا للناس بعد اكتشاف العقار بأن لُقاح الفيروس موجود في القرآن منذ أكثر من ١٤ قرنًا. 
يعتقد صديقي أن وظيفة الخطاب الديني أن يعلم الناس الخضوع والاستكانة للحكام، وأن يجهزهم لقبول الاستبداد والديكتاتورية. فرجال الدين - طبقًا لاعتقاد صديقي - هم الصديق الوفي لكل حاكم ظالم، وهم أداته الفعَّالة من أجل إخضاع الإنسان وركوب ظهره.
قال صديق آخر: أنا مندهش من هؤلاء البلهاء الذين يعتقدون أن الدعاء والأحجبة وآيات القرآن الكريم يمكن أن تجلب علاجًا لهذا الفيروس الخطير. أعتقد أن كل أتباع التيار الديني في بلادنا بمسلميهم ومسيحييهم مرضى نفسيون وأصحاب إعاقة ذهنية ومنفصلون عن الواقع. العالم الآن في احتياج إلى جهود الباحثين في المعامل. أيهما أنفع للبشرية الآن: العالم الملحد الذي يحاول أن يكتشف علاجًا للفيروس أم شيوخ الفضائيات الذين يشغلون الناس في الأمور التافهة كدخول الحمام، وإعفاء اللحية، وتقصير الجلباب؟
إن هذه الكتابات الساخرة تضعنا أمام نقيضين: أولهما هو العلوم التجريبية الحديثة التي يدرسها الطلاب في كليات العلوم، والطب، والصيدلة، والحاسب الآلي، والهندسة بكل فروعها. والنقيض الثاني هو الأديان والعلوم الإنسانية كعلم الاجتماع والفلسفة والسياسة والأدب. يسأل بعض الباحثين في العلوم التجريبية الآن في تحدٍّ واضح قائلين: ما جدوى دراسة العلوم الاجتماعية في زمن الاكتشافات العلمية الحديثة والطائرات؟ ماذا تفيد الدراسات الاجتماعية والفلسفة والأدب في هذه الأيام التي يحتاج فيها الناس إلى الغذاء والدواء والسكن.
هل يأكل الناس مسرحيات شكسبير وقصائد المتنبي إذا أحسُّوا بالجوع؟ إذا احتاج مريض إلى تغيير قلب أو إجراء عملية لتوسيع الشرايين، فهل نقول له: اقرأ سورة الكهف حتى يأتي الشفاء من الله؟ كان صلاح عبد الصبور يقول إن قصيدة واحدةً تتحدث عن طريقة زراعة النباتات وموعدها وطرق الاعتناء بها ستكون أفضل للفلاحين في الحقول من ديوان المتنبي بأكمله وفقًا لهذا الفهم القاصر.
إذا كنت تعتقد عزيزي القارئ بأن هذا الكلام يقوله الناس على فيسبوك وتويتر فقط، فأنت مخطئ. هذا الخطاب قديم، ربما يعود إلى بدايات العصر الحديث، حين تمكَّن الإنسان - بفضل الاكتشافات العلمية - من الصعود إلى القمر، واكتشاف أدوية لأمراض كانت تفتك بنا في العصر القديم. لقد كنا نعتقد - نحن الذين نعيش في القرن الحادي والعشرين - أن أزمنة الكوليرا والطاعون قد انتهت إلى الأبد، فإذا بنا نقف عاجزين أمام فيروس لا يُرى بالعين المجردة. لقد اعتقد كثير من الأكاديميين والعلماء أنه آن الأوان لأن تطوي البشرية صفحة العلوم الإنسانية والأديان عمومًا لأنه لم يعد لها فائدة. لقد تمكن الإنسان من تفسير كثير من الظواهر، وابتكار كثير من الاختراعات التي جعلت من الإنسان سيدًا لهذا الكوكب. 
الحقيقة أن الكلام السابق ينطوي على عدد من المغالطات والأضاليل التي يجب أن نناقشها أولاً. إن هذه الحالة من التماهي بين الدين الذي نزل من السماء وبين القائمين بالخطاب الديني يجب أن تنتهي. إذا كان بعض القائمين على أمر الدين فاسدين، فما علاقة ذلك بالدين؟ إذا كان بعض حملة الخطاب الديني لا يعجبونك فلا يجب أن يمتد غضبك إلى الرسالة نفسها. صحيح أنَّ بعض القائمين على أمر الدين في أيامنا هذه قد أساؤوا إلى الدين بفتاواهم الغريبة وسلوكياتهم غير المسؤولة، لكننا في النهاية لا يجب أن نربط أخطاء الشخص بالرسالة التي يحملها. 
هذا الأمر يشبه أن يتحَمَّلَ الإسلامُ المسؤولية عن سلوكِ عصابات داعش، أو أن تتحمل المسيحيةُ المسؤولية عن جنون هتلر وموسوليني. إذا كان بعضُ المشايخ والقساوسة لا يعيشون إلا في ظل الحكام المستبدين، فالتاريخ يشهد بأن كثيرًا من علماء الدين كانوا صوت الحق الذي لم ترهبه عصاةُ الحاكم ولم يستجيبوا لإغراءات الحكام وذهبهم.
أما هؤلاء الذين يبحثون عن علاج لفيروس كورونا في القرآن أو في أي كتاب ديني، فإنهم يسيئون إلى الدين أيَّما إساءة. القرآن ليس كتابًا في العلم التجريبي، كما أنه ليس كتابًا في الطب. القرآن رسالة إلهية من الله للمؤمنين بها من البشر. وهنا يجب الإشارة إلى المغالطات العلمية والأخطاء الفادحة التي يقع فيها المروِّجُون لما يسمى (الإعجاز العلمي في القرآن الكريم). إن المتابعة الدقيقة للجهود التي بذلها بعض الأكاديميين - وأبرزهم الدكتور زغلول النجار - ستكشف عن هشاشة التفسيرات التي يبنون عليها نظرياتهم وتهافُتها، بالإضافة إلى الأخطاء العلمية الساذجة والإحالات الغامضة التي يقومون بها كي يبرروا تفسيراتهم. 
القرآن لا يحتاج إلى شهادة من أحد، كما أن الحق لا يُعرَفُ بالرجال على حد تعبير الأصوليين. القرآن رسالة في العقيدة تخاطب الإنسان العادي البسيط في المقام الأول. صحيح أن هناك بعض الإشارات العلمية في القرآن حول خلق الإنسان والنظر في الكون والطبيعة، لكنها إشارات عامة غير متخصصة تخاطب الإنسان في المطلق ولا تحتاج إلا إلى إنسان بسيط كي يفهمها. النظريات متغيرة وأحيانًا متناقضة، لكن الرسالة السماوية إذا انطوت على هذا التناقض فإنها تصبح والعدم سواء. ليس مطلوبًا من المؤمن أن يثبت صحةَ القرآن بالعلم، لأنه يُخْضِع ما هو إلهي لتصورات البشر ونظرياتهم. هل يصبح القرآن كتابًا صحيحًا إذا توافق مع نسبية أينشتاين؟ بينما إذا تعارض مع نظرية الجاذبية عند إسحق نيوتن، فهل نُهِيل عليه التراب؟
الإنسان كائن معقد يحتوي على المادة والروح، على السماوي والأرضي. العلوم التجريبية تنظر إلى العالم في قشرته الخارجية. إنها تفسر ما هو أمامها بالفعل، ولا ترفع بصرها إلى الجانب الغيبي والروحي. هناك أسئلة لا يستطيع العلم أن يجيب عنها. لماذا نحن موجودون على هذا الكوكب؟ ومن الذي أوجدنا؟ لماذا ينقسم الجنس البشري إلى ذكر وأنثى؟ إلى أين يذهب الإنسان بعد الموت؟ ما حقيقة هذه الروح التي تسكن أجسادنا؟ ولماذا يموت البعض صغارًا ويموت آخرون عجائز؟ لماذا يوجد الشر مقترنًا بالخير؟ والجمال مقترنًا بالقبح؟ 
لو كانت العلوم التجريبية كافية لسعادة الإنسان، فلماذا ينتحر الناس في الغرب؟ لماذا يشعر الإنسان بالغربة والقلق كلما تقدمت البشرية وكثرت الآلات والاختراعات من حولنا؟ لقد اعتقد كثير من الإسلاميين أن العلوم الاجتماعية والفلسفة لا قيمة لها، ولما سنحت لهم الفرصة للقيادة عجزوا وفوجئوا أنهم لا يعرفون معنى السياسة أو الاجتماع لأن الغالبية العظمى منهم متخصصون في الهندسة والطب والعلوم التجريبية. 
هل حقًا هذه العلوم التجريبية كافية دون قيم الحق والخير والجمال؟ هل تعتقد أن أوروبا غزت العالم بالعلوم الحديثة؟ لقد احتلت أوروبا العالم كله بنظريات كالداروينية الاجتماعية وكتابات مكيافيلي السياسية. وما كان يمكن أن تحتل بلادنا دون هذه النظريات العنصرية. إن رحلة الإنسان في الحياة بدون قيم الحق والخير والجمال تشبه الطائرة التي تحلق في السماء بدون وجهة تقصدها. الأديان والعلوم الإنسانية هي ما يعطينا المعنى لرحلتنا في الحياة.
رابط المقال في موقع ساسة بوست

الخميس، 4 يونيو 2020

خرافات مصرية وعربية - الجزء الأول

في بلادنا مجموعة من الأساطير الرائجة التي يؤمن بها الناس ولا يوجد أي دليل عقلي أو نقلي على صحتها. هذه الخرافات تنتشر بين الناس بشكل كبير وتمارس تأثيرًا سلبيًا على سلوكياتهم وعلى القرارات التي يتخذونها في حياتهم. إنها مستمرة ومتوغلة داخل النفوس بدرجة يصعب تفكيكها مما يؤثر سلبًا على حياة الناس. سوف أحاول أن أسرد بعضًا من هذه الأساطير وأناقش تأثيراتها السلبية على مجتمعاتنا:
1. مصر بلد محروسة:
هذه الأسطورة أسست لكثير من الشعور الزائف بالشوفينية والتفوق الذي يصل إلى حد العنصرية وازدراء الآخرين في مصر. إذا تحدثتَ إلى كثير من المصريين ستجد عندهم إيمانًا مترسخًا بأن بلدهم يتمتع بحصانة إلهية ضد أخطار الطبيعة. هذا الكلام ليس له أي سند من الشرع أو العلم. إن قوانين الفيزياء لا تفرق بين بلد وبلد، ولا بين منطقة وأخرى. لا توجد دولة محروسة وأخرى رُفِعَتْ عنها الحماية من الله. لا يوجد بلد في العالم يتمتع بحماية ذاتية. كل دول العالم إذا لم يدافع أهلها عنها فإنها تتعرض للأخطار والدمار، لا فرق في هذا بين القاهرة أو مكة أو الفاتيكان أو القدس. ومصر ليست استثناءً من ذلك.
لقد تعرَّضتْ أقدس الأماكن التي يعظمها المسلمون لكثير من الهجمات والتخريب على مدى التاريخ. لقد قُذِفَتْ الكعبة بالمنجنيق في خلافة يزيد بن معاوية حتى أن بعض أجزاء من الكعبة قد تعرض للاحتراق عام ٦٤ للهجرة بسبب امتناع بعض الصحابة عن مبايعة يزيد. كما حوصر المسجد الحرام حديثًا واضطرت الحكومة السعودية لإحضار فرقة كوماندوز من الخارج كي يحرروا المسجد الحرام من جهيمان العتيبي وجماعته التي حاولت احتلال المسجد واحتجاز الرهائن بداخله عام ١٩٧٩. كما يمكن اعتبار القدس بأنها المدينة التي شهدت أكبر مذابح على مر التاريخ وما زالتْ. كما تعرضتْ مصر في كثير من فترات التاريخ لمجاعات، وأوبئة، واحتلال، وحروب أهلكتْ معظم سكانها، بل كانت هذه الأوبئة واحدة من جنود الطبيعة التي تحافظ على التوازن البيئي. لا يوجد استثناء في هذا الأمر بين أي بلد وآخر. صحيح أن بعض الأماكن لها قيمة روحية عند أتباعها، لكن هذه القيمة الروحية لا توقف قوانين الفيزياء. ربما استطاع الأنبياء إيقاف قوانين الفيزياء بأمر من الله، لكن يظل هذا استثناءً لا قاعدة.
وعندما ظهرت جائحة كورونا منذ أواخر ديسمبر الماضي، كان الموت يحصد أرواح آلاف الإيطاليين والإسبان كل يوم أمام أعيننا، ونحن ننظر إليهم ولا نفعل شيئًا اعتقادًا منا أن الوباء لا يصيب مصر لأنها محروسة. و"النار لا تحرق مؤمنًا" كما اعتدنا أن نردد. والنتيجة أن هناك ماكينة موت قادمة ولا نملك حيالها إلا الدعاء. قطار بلا مكابح يجري بأقصى سرعة يطحن تحت عجلاته كثيرًا من أحبتنا دون أن يطرف له جفن.
يجب أن نكف عن ترديد هذه المقولة لأنها تخلق مجتمعًا متواكلاً يعتمد على ما تخبئه الأقدار من لطيف العناية الإلهية دون أن يتحرك ليدفع عن نفسه الخطر والهلاك. بلادنا مثل أي بلاد أخرى ليست محصنة ضد الأوبئة والمجاعات. الحراسة الحقيقية للبلد هي حراسة الشعوب الواعية لأوطانها. إنهم يعرفون أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، وأن عليهم أن يغيروا حياتهم إلى الأفضل حتى يستجيب لهم القدر. علينا أن نؤمن أن حراسة الوطن لا تكون إلا بتعب وعرق أبنائه، إنه طريق طويل جدا وشائك لأنه يعتمد على قوانين الطبيعة دون الاقتصار على انتظار الفرج من السماء.
2. الإسلام هو الحل:
عندما كنت صغيرًا في المرحلة المتوسطة والثانوية، كنت أحمل في جيبي وأنا عائد من المدرسة مصحفًا صغير الحجم. كان يحلو لي أن أخرجه من جيبي وأن أقف محدقًا في أصدقائي وأقول لهم بثقة: "في هذا الكتاب الحل لكل مشكلات العالم". مرت سنوات كثيرة، لكنني ما زلت مصدقًا هذه العبارة ومؤمنًا بها كل الإيمان.
لكن بعض الناس في بلادنا يعتقدون أن الإسلام يشبه ماكينة صناعة الكعك التي نضع فيها العجين من ناحية فَيَخْرُج لنا الكعكُ ناضجًا من الناحية الأخرى. الوصفة سهلة جدا. عليك بإحضار أي مجتمع ثم ضَعْهُ في "ماكينة الإسلام"، ثم بحول الله وقوته سوف يتشكَّل على الفور مجتمع يقود العالم. إن هذا الكلام مليء بالافتراء والباطل ويضر الإسلام أكثر مما ينفعه. كل المتخصصين يعرفون أن تجربة الحضارة الإسلامية خلال العصور الوسطى كانت تجربة عظيمة للغاية، لقد تركتْ وراءها إرثًا حضاريًا للبشرية، لكنه إرث زمانه، لا يمكن أن يكون ماكينة لصناعة الحاضر أبدا. كل فترة من فترات التاريخ ابنة زمانها ولا يمكن تكرارها بحذافيرها. لقد استجدَّتْ قضايا ومواقف وأزمات لم تشهدها البشرية من قبل. الحضارات لا يمكن استنساخها لكي تتكرر في أماكن أخر، كما لا يمكن تكرارها. يمكن الاستضاءة بقيمها والبدء من حيث انتهت، أما تكرارها فهذا - في رأيي - مستحيل أبدًا. التاريخ لا يعيد نفسه، والإنسان لا يعبر النهر مرتين كما قال الفلاسفة.
يعلم كل دارسي الفقه والشريعة الإسلامية مدى الجهود الجبارة التي نحتاج إليها من أجل النهوض بالشريعة الإسلامية. هل تصلح الشريعة الإسلامية بشكلها الماضوي للتطبيق في هذا الزمان؟ يوجد إجابتان: إذا كنت تقصد تلك الشريعة بحذافيرها التي وجدت في القرن السابع الميلادي والتي أسستْ للحضارة الإسلامية، فإن الإجابة لا.  لا يمكن أن تصلح لأن الحياة تغيرت كثيرًا ولم يعد ممكنًا في ظل التغيرات المتواصلة أن تواكب هذه الشريعة القديمة هذا العصر. تحتاج هذه الشريعة إلى اجتهاد وثورة.
أما إن كنت تقصد المقاصد العليا لهذه الشريعة وما يمكن أن نضيفه إليها من حلول عصرية عن طريق تجديد الفقه والمواريث والمعاملات، فالإجابة بالتأكيد نعم. الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، لكنها لا تصلح بمفردها، إنها في احتياج إلى جهود المؤمنين بها حتى يصبح الفقه مناسبا للعصر الذي نعيش فيه. لا يمكن أن أستخرج من بطون الكتب مجموعة من القوانين ثم أدفع بها إلى المشرعين وأقول لهم عليكم بتطبيق هذه القوانين لكي نصنع مجتمعًا عظيمًا. كل فلاسفة القانون يعلمون أن القوانين ابنة زمانها، وأن فرض القوانين من أعلى إلى أسفل يجعل منها قشرة خارجية وغطاءً براقًا فوق جسد ميت.

الاثنين، 1 يونيو 2020

ظواهر فيسبوكية عربية


·       الفيسبوك أحد أهم مواقع التواصل الاجتماعي في السنوات العشر الأخيرة. إنه ظاهرة اجتماعية شديدة التأثير. وليس من قبيل المبالغة أن نقول إن تطبيقات التواصل الاجتماعي تعتبر تاريخًا جديدًا في حياة البشر له ما بعده. لقد أصبح «فيسبوك» – شئنا أم أبينا – عالمًا شديد التعقيد والتنوع، وأصبح من اللازم على الأكاديميين وعلماء الاجتماع تحديدًا دراسة هذه الظاهرة وتحليلها من أجل الوصول إلى فهم يساعد على الاستفادة منها والتعامل مع النتائج السلبية الناتجة عن استخدامها.
·       هذا المقال محاولة لالتقاط بعض الظواهر المشتركة التي تميز مواقع التواصل الاجتماعي في العالم العربي، ولهذا أسميته "ظواهر فيسبوكية عربية". ليس من أهداف المقال التنظير أو تعديل سلوك أحد، لكنها مجرد ملاحظات، وفي النهاية كل شخص له مطلق الحرية في كتابة ما يريد أو في التعليق على ما يحب بالطريقة التي يفضلها.
·       صَدِّقْ أو لا تُصَدِّقْ، أنت لست نجمًا سينمائيًّا ولا تلعب كرة القدم في (مانشستر). أنت شخص عادي جدا مثلي ومثل كثير من الناس. هذا أيضًا أمر جيد جدا. الأمر لا يدعو لليأس أو الخجل، لا تحتاج أن تحصد مزيدًا من الإعجابات (لايكس)، ولا تحتاج أن تكون مشهورًا من الأساس، إن كان لك مائة من الأصدقاء والمعارف يحبونك ويبدون اهتمامًا بما تكتب فهذا أمر جيد، لسنا في احتياج أن نكون مشهورين كنجوم سينما أو رؤساء أندية حتى نشعر بالسعادة. الحياة العادية البسيطة جميلة. لا تجهد نفسك بإحصاء الذين يتابعونك أو يعجبون بصورك وتدويناتك. أنت شخص جميل بدون كل هذا - صدِّقني - ولا تحتاج إليه.
·       مع مرور الوقت بدأت تظهر الشرطة الفيسبوكية، ولا أقصد بها الشرطة الحكومية التي تقبض على الناس بسبب آرائهم السياسية، فهذا أمر اعتاد عليه الناس في بلادنا وأصبح طبيعيا كالماء والهواء، وإنما أقصد بشرًا عاديين من أهلنا وأصدقائنا يعتقدون أن مهمتهم في الحياة أن يعلقوا على ما يقوله الناس وأن يرشدوهم كما لو كانوا أطفالاً يحتاجون إلى تأديب. كل شخص يكتب أيَّ رأيي تنعقد له في الحال مشانق ومحاكمات لمجرد أنه أبدى رأيًا يخالف ما يعتقده الناس، وهذا أمر محبط جدًا. لا يجب أن نحاصر الناس بآرائنا أو نجبرهم على اعتناق أي فكرة لا يرغبون فيها. إن إضافة شرطة أخلاقية ودينية تعني مزيدًا من الرقابة على ما هو موجود ويحاصرنا في كل مكان.
·       إذا قرأت رأيا لا يعجبك فلا تغضب، بإمكانك أن تكتب رأيك كما يكتب الآخرون آراءهم، يمكنك أن تتجاهل التدوينات التي لا تعجبك. يمكنك أن تلغي متابعة الأصدقاء والمعارف الذين يستفزُّونك بآرائهم، لكن لا تعقد محاكمات للناس، ولا تتشاجر معهم على أتفه السباب. تذكَّرْ دائمًا أن هذه مواقع للتواصل الاجتماعي وليست للتنافر والتباغض الاجتماعي.
·       الفيسبوك في الأساس شكل من أشكال التواصل الاجتماعي، لكن بعض الناس يأخذون الأمر بجدية بالغة لا تتناسب على الإطلاق واجتماعية الموقع. إنهم يتحدثون كأنهم في محاضرة أو مؤسسة مهمتها التعليم والتربية، كل شخص من هؤلاء يبدو كأنه يدير حوارًا مع مجموعة من المفكرين والفلاسفة، لماذا تتحول مواقع تهدف في الأساس إلى تواصل الناس إلى مؤسسة أكاديمية؟ كأن المؤسسات الأكاديمية العربية لا يكفيها أنها معطلة وفاشلة ولا تقوم بوظيفتها فتحاول أن تمارس سخافاتها على تطبيقات التواصل الاجتماعي؟ نحن نعرف أن حياتنا الأكاديمية أصبحتْ خرابًا، لماذا ننقل فشلها إلى مواقع التواصل الاجتماعي؟ هذا لا يعني أنك ممنوع من الحديث الأكاديمي في الفيسبوك، بالتأكيد بإمكانك أن تفعل، لكن تذكَّرْ أنك لست في قاعة المحاضرات.
·       من الطبيعي أن تكون الأخبار السلبية هي الأوسع انتشارًا لأن الناس تتسابق على قراءتها، لكن انتشارها الواسع يخلق صورة زائفة بأن الدنيا في بلادنا أصبحت خرابا في كل شيء. صحيح أن عندنا كثيرًا من المشكلات، لكنها في النهاية بلادنا التي نحمل جنسيتها، وهي رغم صعوبة الحياة فيها أحب بلاد الله إلى قلوبنا. لماذا يبدو بعضنا كأنه في انتظار أن تنهار الدنيا من حوله ثم يركب أول طائرة ويرحل.
·       لا تنخدع بالمظاهر التي تراها أمامك على فيسبوك. هل شاهدت صورتي على حسابي الخاص؟ هل تعجبك؟ يبدو أن الملابس الرياضية التي أرتديها بلونها الأزرق غالية وأنيقة؟ ليس بالضرورة أن تكون الحقيقة كما تشاهدها. ربما - أقول ربما - أكون قد اشتريت هذه الملابس من متاجر للملابس المستعملة، وهذا يعني أن سعر هذه الملابس قد لا يتعدى ١٠ دولارات. بل ربما تكون ابتسامتي التي تغطي كامل وجهي مصطنعةً ولا تعبر عن الحقيقة. ما يدريك؟ ربما أكون حزينًا وعندي - لا قدر الله - مشكلات كثيرة. لا تنخدع بالمظاهر البراقة التي ربما تكون الحقيقة وراءها على النقيض مما تبدو.
·       كثير من الناس في بلادنا حياتهم خربة وفارغة بلا معنى، لكنهم بارعون تماما في رسم صورة مثالية وزائفة عنهم. إنهم حريصون على أن تبدو صورتهم على فيسبوك كأنهم أشخاص مهمين وناجحين. لا يهمهم في الحقيقة أن حياتهم خربة. المهم أن تبدو صورهم سعيدة أمام الناس. وبمرور الوقت تصبح حياتهم تمثيلية فارغة وأداء مسرحي باهت، ثم يكتشف الناس بالصدفة أنهم وحيدون وتعساء. لا يجب أن نفعل في أنفسنا مثل هذا. ما جدوى أن يرانا الناس سعداء بينما نحن في الحقيقة نشعر بالحزن والوحدة. يجب أن نصلح حياتنا في الواقع أولا، ثم نلتفت إلى مواقع التواصل لكي نهتم بصورتنا في أذهان الناس.
·       حياتنا الخاصة مهمة جدا. لماذا ننشر كل تفاصيل حياتنا على فيسبوك وإنستجرام وكأننا أبطال في حلقات تليفزيون الواقع؟ لماذا نرضى أن تكون حياتنا على المشاع هكذا؟ لماذا يعرف صديقي المقيم في الولايات المتحدة أنني زرت مطعم ماكدونالدز اليوم؟ ما قيمة أن أخبر الناس بهذه التفاصيل؟ يجب أن تكون لحياتنا الخاصة قداسة واحترام. لا يجب أن نتعامل مع حياتنا بهذا الاستخفاف. إذا كنت ذاهبًا الآن إلى ستاربكس، فلا داعي أن يعرف كوكب الأرض بالكامل مكان وجودك.