الأربعاء، 13 ديسمبر 2017

المقاعد

المقاعدُ كائناتٌ تشعر بدِفْءِ الجالسين عليها وتَشْتاقُ إليهم. تشتاقُ حتى إلى أولئك الذين جلسوا لحظاتٍ قليلةً ثم غادروا المكانَ بلا عودة. فوق أخشابِ المقعد جلس العجوزانِ في انتظار زيارةِ الأحفادِ القادمةِ في عيد الحصاد (تشوسوك). وفوقه جلس المراهقانِ يتبادلان كلماتِ الحب غيرَ عابِِئَيْنِ بما يُخَبِّئُه لهما القدرُ، أو بما يُخطِّطُ لهما دونالد ترامب وكيم جونغ أون. فوق هذا المقعد جلستْ سيدةٌ حسناءُ في مُقتَبَل العمر تتذكَّر رفيقَها المسافرَ وتَتَحَسَّسُ آثارَ قبلاته على وجهِها وأطرافِ أصابعها. وفوقه توقَّفَ طائرٌ لالتقاط بقايا الطعام المتساقطِ من الجالِسِين. في الشتاء تشعر المقاعدُ بالوَحْدة وبرودة الجو، فالثلوجُ لا تتساقط على الأرصفة، والنوافذ، وأسطح البنايات فقط، إنها تسقط في القلب والروح أيضا. كل نُدْفَةٍ (قطعة) من الثلج الأبيض تتساقط من أعلى فوقَ أخشاب هذا المقعد الحزين تُذَكِّرُه بدفءِ عشراتِ الناس الذين جلسوا عليه يتبادلون الحديث والعَنَاقَ أحيانا. سوف يظل هذا المقعد مُنْزَوِيًا في صمتٍ حتى تَنْزاحَ أكوامُ الثلج ويعودَ الربيع.

الثلاثاء، 5 ديسمبر 2017

هناك.... بعيدًا في الأعماق

هناك مِنْطَقَةٌ خفيةٌ داخلَ القلبِ لا يطَّلِعُ عليها أحدٌ على الإطلاق. أحيانا تكون مصدرًا للسعادة، وكثيرًا ما تكون مصدرًا للألم. منطقةٌ في الأعْمَاق نُحاولُ إِخْفَاءَها عن عيون الرُّقَباءِ. قد تكون حادثةً منذ سنواتٍ طويلةٍ، أو مَوْقِفًا عابِرًا تَرَكَ جُرْحًا لا يَنْدَمِلُ، أو علاقةً لم يُكْتَبُ لها النجاحُ، أو حِوارًا غاضبًا لا نَعُودُ بَعدَهُ كما كُنَّا مِن قَبلُ، أو لحظةَ خيانةٍ كاشفةٍ. لكنَّ هذه المِنْطقَةَ في كل الأحوال تَظَلُّ مصدرًا ومُحَرِّكًا للكثيرِ من تَصَرُّفاتِنا في الحياة حتى بعد مُرُورِ سنواتٍ طويلةٍ عليها. لا يمكن أن نَبُوحَ بها لأنَّ لحظاتِ البَوْحِ مُؤْلِمَةٌ كَأَنَّنَا شَخْصٌ يَقِفُ عارِيًا في مَيْدانٍ عامٍّ ساعةَ الظَّهِيرةِ. ولا شيءَ مضمونٌ، فرُبَّمَا صديقُ اليومِ يُصْبِحُ في غدٍ عَدُوًّا لَدُودًا، ولِهذا نُحَاوِل دائمًا أنْ نُبْقِيَ هذه المنطقةَ بعيدًا. قد يُلاحِظُها الأذكياءُ في التِفَاتَةٍ سريعةٍ، أو كلماتِ ترحيبٍ مُبَالَغٍ فِيها، أو لحظاتِ مَرَحٍ زَائِدَةٍ عن الحَدِّ، أو دُمُوعٍ نَخْلُطُها بِقَطَرَاتِ المَاءِ عندَ غَسِيلِ الوَجْهِ في الصَّباحِ. نَعَمْ. نَعَمْ. نَعَمْ. مِثْلَ هَذه اللحظةِ التي تفكرُ فيها أنتَ الآنَ.

الأحد، 19 نوفمبر 2017

حين أصابتني الغربة

أقسى ما في الغربة أن تكون هامشًا. ممنوعٌ أن تصبح مَتْنًا في حياة الآخرين. وظيفتك أن تكون أداةً يقترب منها الآخرون بِقَدْرِ فائدتِها. أنت في الغربة كائنٌ حيٌّ تنمو مشاعرُه إلى الداخل، ويحيط نفسَه بسياجٍ غليظٍ من خرسانة اللامبالاة والتحديقِ في الفراغ. تحمل دموعَك داخلك كَمَن يحمل إناءً يفيض بالماء على حافَّتَيْه. تظل تتأرجح حاملاً الإناءَ فوق رأسك محاولاً ألا يصطدم بك أحدٌ خشيةَ أن ينسكب الإناءُ من الخارج وتنكشف دموعُك أمام الآخرين. لا تتذكر الأعيادَ إلا حين يحتفل بها الآخرون، ولا يقترب منك أحدٌ إلا بالخطإِ كما يقترب الناس من أشواك القُنفذ، ربما يصطدم بك شخصٌ متعجلاً فيضع يده على كتفك معتذرا، وأنت تَوَدُّ لو أنه مد كلتا يديه وعانقك. لكنك أحيانًا لا تعدم وسط هذا الضباب مَن ينظر إليك بعطف، بل ويشكرك على معروفٍ أسْدَيْتَه إليه. مريد البرغوثي يقول إن الغربة مثل مرض الربو، إذا أصابك لا شفاء منه أبدا. أنا أيضا أصابتني الغربة، لكنني ألِفْتُها كما يألف المدمنون وَخْزَ الإبرة. أخشى حين أعود من حيث جئتُ ألا أجد الآخرين حيث تركتُهم. وهَبْنِي وجدتُهم حقا، فهل سأكون أنا ذلك الشخصَ الذي غادرهم منذ وقت طويل؟