الأحد، 23 ديسمبر 2012

غربة

في شتاء الإسكندرية القارس
حين يغادر الجميع إلى منازلهم مبكرين
أقف عاريًا تحت أمطار تنهمر بغزارة
تضربني الرياح بقسوة كما تضرب الأمواج صخور الشاطئ
تدوس السيارات فوق جبيني الغض
ناشدتك الله يا أبي
أن تغادر قبرك البعيد في قريتنا النائية
ولو لساعة واحدة
لكي تلملم أشلائي المبعثرة
في أزقة هذه المدينة الموحشة
حيث يخفي أهل هذه المدينة مخالبهم تحت ثياب فاخرة
وكلما عانقت واحدًا منهم
أحسست بنصل السكين الحاد
يخترق عمودي الفقري

الاثنين، 24 سبتمبر 2012

وحدة

         كان في الرابعة من عمره حين اتشحت أمه فجأة بالسواد، واحتضنته دامعة العينين. أخبرته بصوت متهدج وعبرات مكتومة أن جدته التي يحبها قد صعدت إلى السماء. غير أنه حين أتي المساء وافتقد سخونة أنفاسها على الوسادة الباردة تساقطت من عينه دمعتان، وأدرك أن جدته الآن تنام في قبرها وحيدة دون غطاءٍ كافٍ يقي قدميها الهزيلتين من الصقيع، ولن تتمكن بسبب مرضها من إضاءة مصباح القبر وتنَاوُلِ عشائِها كما كانت تفعل، ولن تستطيع النهوض حين تحتاج بعض الماء لابتلاع أقراصها المهدئة، وود لو أنه استطاع أن يجلس بجوارها في القبر، لعل برودة الجو تشفع له عندها فتحتضنه ولو لمرة واحدة ..... أخيرة.

الاثنين، 10 سبتمبر 2012

أين أنت أيتها الطمأنينة؟

  هي: لماذا تبدو مؤرقًا يا سيدي بعد كل هذه الساعات الطويلة من النوم؟ إن فندقنا ذا النجوم الخمسة يقدم أفضل الأسِرَّة والوسائد، ويضبط أجهزة التكييف بحيث تتناسب تماما مع درجة حرارة الجسد. لا يوجد مكان في هذه المدينة يمكن أن يجلب لك النوم الهانئ أفضل من هنا يا سيدي.

   أنا: أنت مخطئة تماما يا سيدتي، إن كل هذه المواصفات التي ذكرتِها قد لا تجلب النوم على الدوام، لقد حاولت كثيرًا لكنني لم أستطع النوم، كنت أتمنى لو أنني كنت في قريتنا الهادئة أقفز من نافذة منزلنا الريفي ذي الطابق الواحد، ممددًا جسدي في إحدى الترع الخالية من الماء، واضعًا صفحة وجهي على الرمال الباردة، بينما القمر يمر من فوق رأسي متكاسلا وسط كومة من النجوم المتلألئة. ثم يباغتني صوت أمي الحنون معلنًا اقتراب العَشاء، تسبقه رائحة الخبز الشهي وقد استسلم لنار الموقد الحانية. إن حضن أمي في الشتاء وصوتها المرهق على الدوام من خدمة زوجها وأبنائها الثمانية بعد انتهاء اليوم كان يبعث في جسدي النعاس ويلقيني تحت قدميها جثة هامدة لا تحس بالعالم إلا عند مجيء الصباح.

                                             ***********

   هي: لماذا لا تتذوق الطعام يا سيدي؟ ألا يعجبك مذاقه؟ لقد صنعه أمهر الطهاة الذين يعملون في الفنادق الراقية. إنهم يرتدون حين إعداده أفخم وأنظف الثياب، كما أنني أشرف بنفسي على ضبط النسب والمقادير، ولا أسمح أبدًا أن يتجاوز طعامنا النسب الصحية التي قررها الأطباء وعلماء التغذية.

   هو: أرجو أن تلتمسي لي العذر يا سيدتي، فقد اعتادت معدتي الفقيرة على طعام أمي البسيط الذي لا تُعده بإتقان، إنها في الغالب ترتدي الملابس البسيطة حين تدخل المطبخ، لقد كنت على الدوام ألاحظ احتراق بعض أجزاء الدجاج عند تحميره. لكن رائحة أنفاسها تختلط دائمًا بالطعام عند إعداده، كانت تجعل لطعامها مذاقًا غريبا ورائحة أغرب. كل هذه الأطعمة البراقة والألوان الزاهية لا تعوضني أصابع أمي الذابلة حين تمد يدها بقطعة من الخبز الجاف وبعض الجبن. أعدُكِ يا سيدتي أن أستشير طبيبا ماهرًا في علاج المعدة، لعلني أستطيع نسيان ملوخية أمي الباردة وتذوق أطعمتكم الساخنة.

                                             ***********

   هي: مرحبًا بك يا سيدي على متن الخطوط الجوية التابعة لواحدة من أفضل شركات الطيران العالمية. هل تلاحظ معي الرفاهية الفائقة في مقاعد الدرجة الأولى؟ لماذا يبدو عليك التبرم وكأنك لست سعيدًا بكل هذا؟

   هو: لأنكِ لو جربتِ معي السفر داخل إحدى العربات المختصة بالنقل في قرى الريف وفي صعيد مصر لأدركت معنى السعادة الحقة في السفر، إن رائحة الخراف الصغيرة والدجاج الذاهب إلى السوق تملأ الأنف، بل إن صراخ الراكبين واندهاشهم المستمر من قائد السيارة المجنون الذي يذهب بهم كل دقيقة إلى حافة الموت ويعيدهم سالمين تجعل من السفر تجربة متفردة، وقد تضطرك الظروف يا سيدتي إلى أن تستقلي حمارًا يلقي بك في إحدى الترع الممتلئة بالماء؛ فتعومين بملابسك كاملة وسط أكوام الطين. أعيدي إليَّ كل هذا ولتسعدي أنت بطائرتك البوينج وسعادتك البلاستيكية.

                                              ***********

   هو: لماذا تلازم حجرتك في الفندق على الدوام يا سيدي؟ بإمكانك أن تتجول في هذه المدينة، إن بها مطاعم عائمة ودورًا للسينما ومسارح ومتاجر تأخذ الألباب.

   هو: ما حاجتي إلى كل هذا، كنت أتمنى لو أنني أستبدل بكل هذا طريق قريتي المتعرج والممتلئ بالطين والأتربة على الدوام. إن كل ما في مدينتكم يحيلني إلى آلة تشبه الروبوت أو قطعة من الخشب. بإمكانك أن تنظر من شرفة الفندق الذي تفخر أنت به الآن، سوف تجد البشر من الطابق المائة وكأنهم أسراب من النمل. أريد بشرًا أتحدث إليهم، أريد الفلاحين البسطاء تعلو وجوههم الطمأنينة وينظرون إليك باسمين رغم الشقاء.