السبت، 13 يونيو 2020

الأديان والعلوم الإنسانية في زمن القنابل الذرية

عندما بدأت أزمة فيروس كورونا تتابعت التدوينات الساخرة على مواقع الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي. كانت هذه التدوينات تسخر من الخطاب الديني عمومًا والإسلامي خاصَّةً. قال أحد أصدقائي: بينما تنشغل مراكز الأبحاث ومعامل الجامعات في العالم المتقدم الآن بالبحث عن عقار مضاد لهذا الفيروس اللعين، هناك مشايخ يفتشون في آيات القرآن كي يعلنوا للناس بعد اكتشاف العقار بأن لُقاح الفيروس موجود في القرآن منذ أكثر من ١٤ قرنًا. 
يعتقد صديقي أن وظيفة الخطاب الديني أن يعلم الناس الخضوع والاستكانة للحكام، وأن يجهزهم لقبول الاستبداد والديكتاتورية. فرجال الدين - طبقًا لاعتقاد صديقي - هم الصديق الوفي لكل حاكم ظالم، وهم أداته الفعَّالة من أجل إخضاع الإنسان وركوب ظهره.
قال صديق آخر: أنا مندهش من هؤلاء البلهاء الذين يعتقدون أن الدعاء والأحجبة وآيات القرآن الكريم يمكن أن تجلب علاجًا لهذا الفيروس الخطير. أعتقد أن كل أتباع التيار الديني في بلادنا بمسلميهم ومسيحييهم مرضى نفسيون وأصحاب إعاقة ذهنية ومنفصلون عن الواقع. العالم الآن في احتياج إلى جهود الباحثين في المعامل. أيهما أنفع للبشرية الآن: العالم الملحد الذي يحاول أن يكتشف علاجًا للفيروس أم شيوخ الفضائيات الذين يشغلون الناس في الأمور التافهة كدخول الحمام، وإعفاء اللحية، وتقصير الجلباب؟
إن هذه الكتابات الساخرة تضعنا أمام نقيضين: أولهما هو العلوم التجريبية الحديثة التي يدرسها الطلاب في كليات العلوم، والطب، والصيدلة، والحاسب الآلي، والهندسة بكل فروعها. والنقيض الثاني هو الأديان والعلوم الإنسانية كعلم الاجتماع والفلسفة والسياسة والأدب. يسأل بعض الباحثين في العلوم التجريبية الآن في تحدٍّ واضح قائلين: ما جدوى دراسة العلوم الاجتماعية في زمن الاكتشافات العلمية الحديثة والطائرات؟ ماذا تفيد الدراسات الاجتماعية والفلسفة والأدب في هذه الأيام التي يحتاج فيها الناس إلى الغذاء والدواء والسكن.
هل يأكل الناس مسرحيات شكسبير وقصائد المتنبي إذا أحسُّوا بالجوع؟ إذا احتاج مريض إلى تغيير قلب أو إجراء عملية لتوسيع الشرايين، فهل نقول له: اقرأ سورة الكهف حتى يأتي الشفاء من الله؟ كان صلاح عبد الصبور يقول إن قصيدة واحدةً تتحدث عن طريقة زراعة النباتات وموعدها وطرق الاعتناء بها ستكون أفضل للفلاحين في الحقول من ديوان المتنبي بأكمله وفقًا لهذا الفهم القاصر.
إذا كنت تعتقد عزيزي القارئ بأن هذا الكلام يقوله الناس على فيسبوك وتويتر فقط، فأنت مخطئ. هذا الخطاب قديم، ربما يعود إلى بدايات العصر الحديث، حين تمكَّن الإنسان - بفضل الاكتشافات العلمية - من الصعود إلى القمر، واكتشاف أدوية لأمراض كانت تفتك بنا في العصر القديم. لقد كنا نعتقد - نحن الذين نعيش في القرن الحادي والعشرين - أن أزمنة الكوليرا والطاعون قد انتهت إلى الأبد، فإذا بنا نقف عاجزين أمام فيروس لا يُرى بالعين المجردة. لقد اعتقد كثير من الأكاديميين والعلماء أنه آن الأوان لأن تطوي البشرية صفحة العلوم الإنسانية والأديان عمومًا لأنه لم يعد لها فائدة. لقد تمكن الإنسان من تفسير كثير من الظواهر، وابتكار كثير من الاختراعات التي جعلت من الإنسان سيدًا لهذا الكوكب. 
الحقيقة أن الكلام السابق ينطوي على عدد من المغالطات والأضاليل التي يجب أن نناقشها أولاً. إن هذه الحالة من التماهي بين الدين الذي نزل من السماء وبين القائمين بالخطاب الديني يجب أن تنتهي. إذا كان بعض القائمين على أمر الدين فاسدين، فما علاقة ذلك بالدين؟ إذا كان بعض حملة الخطاب الديني لا يعجبونك فلا يجب أن يمتد غضبك إلى الرسالة نفسها. صحيح أنَّ بعض القائمين على أمر الدين في أيامنا هذه قد أساؤوا إلى الدين بفتاواهم الغريبة وسلوكياتهم غير المسؤولة، لكننا في النهاية لا يجب أن نربط أخطاء الشخص بالرسالة التي يحملها. 
هذا الأمر يشبه أن يتحَمَّلَ الإسلامُ المسؤولية عن سلوكِ عصابات داعش، أو أن تتحمل المسيحيةُ المسؤولية عن جنون هتلر وموسوليني. إذا كان بعضُ المشايخ والقساوسة لا يعيشون إلا في ظل الحكام المستبدين، فالتاريخ يشهد بأن كثيرًا من علماء الدين كانوا صوت الحق الذي لم ترهبه عصاةُ الحاكم ولم يستجيبوا لإغراءات الحكام وذهبهم.
أما هؤلاء الذين يبحثون عن علاج لفيروس كورونا في القرآن أو في أي كتاب ديني، فإنهم يسيئون إلى الدين أيَّما إساءة. القرآن ليس كتابًا في العلم التجريبي، كما أنه ليس كتابًا في الطب. القرآن رسالة إلهية من الله للمؤمنين بها من البشر. وهنا يجب الإشارة إلى المغالطات العلمية والأخطاء الفادحة التي يقع فيها المروِّجُون لما يسمى (الإعجاز العلمي في القرآن الكريم). إن المتابعة الدقيقة للجهود التي بذلها بعض الأكاديميين - وأبرزهم الدكتور زغلول النجار - ستكشف عن هشاشة التفسيرات التي يبنون عليها نظرياتهم وتهافُتها، بالإضافة إلى الأخطاء العلمية الساذجة والإحالات الغامضة التي يقومون بها كي يبرروا تفسيراتهم. 
القرآن لا يحتاج إلى شهادة من أحد، كما أن الحق لا يُعرَفُ بالرجال على حد تعبير الأصوليين. القرآن رسالة في العقيدة تخاطب الإنسان العادي البسيط في المقام الأول. صحيح أن هناك بعض الإشارات العلمية في القرآن حول خلق الإنسان والنظر في الكون والطبيعة، لكنها إشارات عامة غير متخصصة تخاطب الإنسان في المطلق ولا تحتاج إلا إلى إنسان بسيط كي يفهمها. النظريات متغيرة وأحيانًا متناقضة، لكن الرسالة السماوية إذا انطوت على هذا التناقض فإنها تصبح والعدم سواء. ليس مطلوبًا من المؤمن أن يثبت صحةَ القرآن بالعلم، لأنه يُخْضِع ما هو إلهي لتصورات البشر ونظرياتهم. هل يصبح القرآن كتابًا صحيحًا إذا توافق مع نسبية أينشتاين؟ بينما إذا تعارض مع نظرية الجاذبية عند إسحق نيوتن، فهل نُهِيل عليه التراب؟
الإنسان كائن معقد يحتوي على المادة والروح، على السماوي والأرضي. العلوم التجريبية تنظر إلى العالم في قشرته الخارجية. إنها تفسر ما هو أمامها بالفعل، ولا ترفع بصرها إلى الجانب الغيبي والروحي. هناك أسئلة لا يستطيع العلم أن يجيب عنها. لماذا نحن موجودون على هذا الكوكب؟ ومن الذي أوجدنا؟ لماذا ينقسم الجنس البشري إلى ذكر وأنثى؟ إلى أين يذهب الإنسان بعد الموت؟ ما حقيقة هذه الروح التي تسكن أجسادنا؟ ولماذا يموت البعض صغارًا ويموت آخرون عجائز؟ لماذا يوجد الشر مقترنًا بالخير؟ والجمال مقترنًا بالقبح؟ 
لو كانت العلوم التجريبية كافية لسعادة الإنسان، فلماذا ينتحر الناس في الغرب؟ لماذا يشعر الإنسان بالغربة والقلق كلما تقدمت البشرية وكثرت الآلات والاختراعات من حولنا؟ لقد اعتقد كثير من الإسلاميين أن العلوم الاجتماعية والفلسفة لا قيمة لها، ولما سنحت لهم الفرصة للقيادة عجزوا وفوجئوا أنهم لا يعرفون معنى السياسة أو الاجتماع لأن الغالبية العظمى منهم متخصصون في الهندسة والطب والعلوم التجريبية. 
هل حقًا هذه العلوم التجريبية كافية دون قيم الحق والخير والجمال؟ هل تعتقد أن أوروبا غزت العالم بالعلوم الحديثة؟ لقد احتلت أوروبا العالم كله بنظريات كالداروينية الاجتماعية وكتابات مكيافيلي السياسية. وما كان يمكن أن تحتل بلادنا دون هذه النظريات العنصرية. إن رحلة الإنسان في الحياة بدون قيم الحق والخير والجمال تشبه الطائرة التي تحلق في السماء بدون وجهة تقصدها. الأديان والعلوم الإنسانية هي ما يعطينا المعنى لرحلتنا في الحياة.
رابط المقال في موقع ساسة بوست

هناك تعليق واحد: