الأحد، 19 أبريل 2020

فيسبوك الذي أضحكنا ثم ضحك علينا

بدأتْ القصة معي عام ٢٠١٠. كانتْ شبكة فيسبوك في بدء انتشارها الواسع في المنطقة العربية وواصلت زحفها حتى ابتلعت الكوكب. كان الأمر بالنسبة لي ولغيري هديةً من السماء، ولُعبةً نتسلَّى بها كأطفال فقراء يدخلون مدينة ديزني لاند لأول مرة في حياتهم. هل هذا معقول؟ مساحة بيضاء أكتب عليها ما أحب، فإذا بكتابتي تتجول عبر حسابات الناس عن طريق المشاركة والتعليق والإعجاب؟ بالفعل، خلال عام واحد كنتُ أتواصل مع كثير من الأصدقاء الذين ظننتُ أنهم رحلوا إلى أماكن بعيدة ولن يعودوا، وتوالى دخول الناس على الشبكة حتى أصبحت كأنها يوم القيامة.
ملايين البشر بأسماء حقيقية ووهمية، ورموز، وأيقونات، وروابط، وإعلانات، وصور، وفيديوهات، وإعجابات، وأخبار صحيحة، وفَبْرَكات، وتعليقات بريئة، وأخرى تمتلئ بالكراهية والعنف. حروب كاملة تتم عبر العالم الافتراضي. رصاصها الكلمات. وقنابلها الصور والتعليقات. النمر الصغير الذي ربَّيناه في بيوتنا وأطعمناه خبزنا وظننَّا أنه لن يَعُضَّ اليد التي امتدَّتْ له بالحب، فإذا به يشتد ساعدُه ويستدير علينا ليأكلنا. القزم الصغير في الحكايات الأسطورية الذي كنا ننظر إليه باستهزاء وتعالٍ يتَضَخَّم في كل الاتجاهات حتى أصبحنا نحن بالنسبة له أقزامًا صغيرة نخاف أن يفتك بنا.
ما الذي تَغيَّرَ بعد هذه السنوات العشر؟ لماذا تحوَّل الكائن الأليف إلى سفَّاك دماء وقاتل محترف؟ لماذا انتهى الأمر بهذه الشبكة إلى أن أصبحت موضع اتهام وشكّ من قبل كل الناس؟ لماذا تحوَّل هذه الموقع التي بدأ صغيرًا على شبكة الإنترنت إلى كائن ضخم يكاد يبتلع كل الشبكة؟ أكثر من عشر سنوات من الأحداث جرتْ خلالها كثير من التغيرات التي كان فيسبوك وإخوانه شاهدين عليها ومؤرخين لأحداثها. ثورات، وانتفاضات، وتظاهرات، وأحداث شغب لم نكن نسمع عنها قبل فيسبوك وتويتر، وفجأة رأينا الرصاص والقنص على الهواء مباشرة، كما شاهدنا قتلةً مدججين بالسلاح والكراهية، يحملون كاميرات على رؤوسهم ويقتلون الناس في بث مباشر رآه العالم كله. لقد أصبحتْ الصور والفيديوهات أكثر أهمية من الكلمات والخطب والأشعار. تحوَّلتْ البشريةُ من بلاغة الكلمة والفكرة إلى بلاغة الصورة والفيديو. انقلاب كامل في تاريخ البشرية لا يقل عن اختراع الراديو والطباعة وصاروخ الفضاء.
لكن هذه الشبكات الاجتماعية الآن متهمة بزعزعة الاستقرار وتدبير المؤامرات على الدول والحكومات. إن فيسبوك في نظر هذه الحكومات جاء من أجل تغيير الخرائط وزَرْعِ الفتن والثورات. تُسَمِّي الحكوماتُ الشرق أوسطية مواقع التواصل الاجتماعي "حروبًا"، وتعطيها أوصافًا مثل "حروب الجيل الرابع". كانت هذه الأوطان في نظرهم مستقرة وأهلها كانوا سعداء وراضين بما هم فيه. ثم جاء كائن فيسبوك الخرافي بالصور عالية الدقة والفيديوهات الـ 4k لكي يتمرد الناس على حياتهم البسيطة وحكامهم الطيبين. لولا هذه الفتن التي تضرب بلا هوادة على الشاشات وأجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية لكان الناس يعيشون في هدوء واطمئنان حسب رأيهم. تعلَّم الناس من فيسبوك وتويتر الشكوى والتذمر والتطلُّع لتقليد الحياة الافتراضية التي يشاهدونها. اصطحب الفلاحون البسطاء في القرى هواتفهم الذكية إلى الحقول. عرفوا من خلالها أن هناك بلادًا غنية وعندها وسائل مواصلات أفضل من الحمار الذي يركبونه. رأى الفلاح في قريتنا أن السيدة زوجته ليست جميلة كما كان يعتقد، أخذ يقارن بينها وبين فتيات إنستجرام وتليفزيون الواقع في الشرق والغرب. لا يعلم المسكين أن هناك أطنانًا من مساحيق التجميل، والعدسات اللاصقة، ومرطبات البشرة، وفلاتر العدسات، وعمليات التجميل، والفوتوشوب، وتعديل زوايا التصوير التي تُحِيل النساء إلى كائنات ملائكية بدون أجنحة. ابتلع الفلاح المسكين الغصة في قلبه وما عاد يصدق إلا ما تراه عيناه.
لكن هناك أيضًا من يرفض هذه الاتهامات. يقول بعض الناس إن حياة الناس قبل فيسبوك كانت خرابا كما هي الآن. الذي حدث أن فيسبوك أخرج إلى السطح ما كان مغمورًا تحت الأرض. أبواب البيوت التي كانت مغلقة على المآسي أصبحت مفتوحة يشاهدها الناس عبر الفيديوهات، والتدوينات، والصور. فيسبوك لم يخترع الكراهية وإنما كان وسيلة لإظهارها فقط. كان الناس يتحدثون عن بلادهم كأنها آخر العالم. عرف الناس من فيسبوك أنهم جزء صغير من أجزاء أخرى وكائنات أخرى تشاركهم الحياة على كوكب الأرض. وسائل التواصل الاجتماعي قرَّبت المسافات، وعرف كل شخص يتألم أن هناك من يتألم مثله، فتشارك الجميع الألم وارتفعت الأصوات بالصراخ بعد أن كانوا صامتين. لم يعد المواطن يصدق أن "طفح المجاري" و"انتشار القمامة" في شوارع بلادنا أمور طبيعية. يمكنه الآن أن يشاهد شوارع "طوكيو" و"سيول" و"كوالا لامبور" تلمع مثل زجاج السيارات. لم يفسد فيسبوك حياتنا لأنها كانت فاسدة قبل مجيئه. كل الذي حدث أنه رفع الغطاء عن الجثة وكشف رائحة العفن. لا يجب أن نلوم فيسبوك. الأفضل أن نُنَظِّف ملابسنا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق